سليمانى وترامب وطحن البشر الفائضين

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الأحد 12 يناير 2020 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع درج مقالا للكاتب خالد منصور تناول فيه موقف النخب فى المنطقة من مقتل سليمانى ونظرتهم فقط إلى ما يحقق مصلحتهم غير آبهين بمقتل الآلاف من البشر فى مناطق الصراع.. ونعرض منه ما يلى.
كان متوقعا هذا الشعور بالتوتر الذى سرى وسط نخب سياسية واجتماعية فى عواصم المشرق العربى، بعد مقتل جنرال الحرس الثورى الإيرانى قاسم سليمانى فى غارة أمريكية على مطار بغداد. لدينا فى المنطقة الآن نخب متعبة متهالكة وصلت إلى نهاية مطاف ما وتقاوم الضغوط الشعبية عليها برطانات وشعارات قديمة، ثم بالحديد والدم، وبعض المال. هى نخب فرحت معظمها بمقتل سليمانى، رغبة فى إضعاف «العدو» فى طهران، ثم خافت من رد فعل إيرانى ضد أهداف نفطية من آبار وناقلات، أو ضد قواعد عسكرية غربية فى بلدانها أو ضدها بالتحديد، ثم تنفست تلك النخب الصعداء عندما اقتصر رد الفعل حتى الآن على عشرات الصواريخ التى أطلقتها إيران على قاعدتى عين الأسد وأربيل العراقيتين؛ حيث توجد قوات أمريكية!
نخب محور الممانعة الممتد من طهران إلى غزة عبر بغداد ودمشق وبيروت أججت غضبا جماهيريا، وشاركت فى مراسم جنائزية حاشدة فى مدن عدة، أو تظاهرات صغيرة ترفع صور «الفقيد» أو ترسلها تدور فى فضاءات التواصل الاجتماعى، وهى صور يحتضن فيما الأمام الحسين الجنرال سليمانى. لا تنضب قريحة الإسلاميين شيعة وسنة فى استعمال رموز ونصوص واستشهادات دينية من أجل خدمة مطامعهم السياسية. وراح فى إيران 50 قتيلا دهسا فى مراسم تشييع احتفالية لبقايا جثمان الجنرال، وهى مراسم لا شك فى أن مؤسسات إيران الأمنية رعتها وخططت لها، لأنها حريصة على ضبط الشارع بعد تظاهرات شعبية كبيرة ومتكررة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية العام الماضى.
***
يمكن تفهم مشاعر الغضب والمهانة عند جماهير تحس أنها مستباحة من أمريكا وإسرائيل بغاراتها وقذائفها وغطرستها تجاه العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، ولكن جماهير أكبر فى تلك البلدان وغيرها فى إيران والعراق ولبنان وجهت سهام غضبها وخيبة أملها فى معظم 2019، ضد نخبها الحاكمة وسياساتها الفاشلة. وساهم محور الممانعة وفى قلبه رجال مثل سليمانى بدور حيوى فى قتل مئات آلاف الأبرياء فى سوريا، ويخوض معارك استراتيجية من أجل مصالح طهران، التى لا تخجل فيها من عقد صفقات مع إسرائيل (الشيطان الأصغر) والتفاوض مع أمريكا (الشيطان الأكبر)، ومغازلة روسيا والتنسيق مع قطر. كان سليمانى ترسا فى آلة صراع دائرة إقليميا على بسط النفوذ مع تركيا وإسرائيل فى منطقة ينسحب منها الراعى الأمريكى منذ الفترة الثانية لحكم الرئيس باراك أوباما فى أوائل العقد بينما ما زالت أهداف الراعى الروسى مبهمة.
وطوال أسبوع حبس البعض فى نخب الممانعة وجماهيرها الغاضبة أنفاسهم تطلعا إلى رد فعل إيرانى ساحق. دبلوماسيون غربيون فى المنطقة أعدوا تقارير متنوعة، وحضروا اجتماعات متتالية بينما طار مسئولون خليجيون إلى واشنطن، ومسئول قطرى إلى طهران وآخرون إلى «تويتر»، يرجون من ترامب وخامنئى ضبط النفس.
ومقابل تفهم مشاعر هذه الجماهير وجذورها المتداخلة لا يملك الواحد ربما سوى اللا مبالاة وبعض التشفى أحيانا، إزاء الشعور بالقلق والتوتر بين النخب الحاكمة (نفطية وعسكرية ومالية) فى الخليج وبلاد الشام والعراق على اتساعها. وأعنى بهذه النخب حكومات وحكاما وكبار رجال أعمال وبيروقراطيين ورجال دين ومن ورائهم مؤسسات عسكرية وأمنية وتجارية ودينية وإعلامية وتعليمية. لا يبدو أن هذه النخب تريد للصراعات العنيفة فى المنطقة أن تدهس عشبهم، ولكنها لا تبالى إذا طحنت هذه الصراعات بما فيها تلك التى تمولها وتشارك فيها أو تتغاضى عنها فى اليمن وليبيا وسوريا والعراق آلاف وآلاف البشر الفائضين عن الحاجة، البشر غير المهمين: أسر فتك بها الخوف والفقر والجوع تطاردها قذائف وبراميل متفجرات روسية وسورية فى إدلب لتُوسعها قتلًا وتدمر بيوتها ومستشفياتها ومدارسها. يضاف إليهم متظاهرون ومحتجون شباب يسقطون برصاصات قاتلة وغاز خانق تطلقه ميليشيات أو أفراد متحالفون مع النظام العراقى فى بغداد ومدن أخرى.
***
كانت لسليمانى يد طولى فى هذه المآسى فى العراق وسوريا وفى لبنان ولكن خصومه قبل حلفائه شاركوا بسهم وافر أيضا. اليد الطولى الأخرى التى أمسكت بيد سليمانى كثيرا وشدت عليها ودعمتها حتى قررت تركها بعدما افترقت الطرق، كانت اليد الأمريكية التى عملت فعليا مع الإيرانيين منذ منتصف يونيو 2014 فى الحملة العسكرية ضد «داعش». وهى أيضا يد يغطيها دم أبرياء كثر (وفقا لوزارة الدفاع الأمريكية فقد سيّرت 34500 ضربة جوية لها، قتل فيها 1319 مدنيا منذ بداية الحملة وحتى منتصف 2019). منظمة الحروب الجوية البريطانية المستقلة ذات الصدقية تقول إن عدد القتلى المدنيين الأبرياء فى سوريا والعراق بسبب غارات التحالف الأمريكى تتراوح بين 8 آلاف و13 ألف قتيل مدنى فى الفترة ذاتها.
فى هذه المنطقة تقاطعت طرق الجنرالات الأمريكيين والإيرانيين كثيرا، ولكنها طرق ارتسمت على أجساد بشر كثيرين بتعاون نخب لا تسعى سوى نحو البقاء فى السلطة ومراكمة الثروة.
النمل لم يعد قادرا على الهروب إلى مخابئه مع تصاعد صراع الأفيال، فالدم والطين الذى يتطاير من مراوح الطائرات المقاتلة يغطينا جميعا فعليا وبلاغيا. مقتل سليمانى ليس سوى مشهد فى صراع دموى من أجل رسم خريطة المنطقة المقبلة من حيث الحدود والموارد والدول الجديدة أو المناطق ذات الحكم الذاتى التى ستنشأ. هذه منطقة يشحب اهتمام الدولة العسكرية العظمى، الولايات المتحدة، بها وتتنازعها مؤامرات وصراعات تُحاك فى طهران وإسطنبول وموسكو بالتعاون مع نخب عربية متعبة فى أبوظبى والرياض وعواصم أخرى أقل أهمية فى هذه المقتلة، أو ضدها. هذه نخب تحاول القبض بيدها على ماء البحر وإغراق أحلام وطموحات أجيال بكاملها لم تعد معنية ولا مهتمة برطانات فارغة وطنية أو قومية أو دينية (أو تهتم بها بشكل انتهازى قاتل فى أحيان). هؤلاء معظمهم بشر فائضون بالنسبة إلى النخب، قتلهم أمر بغيض ربما، ولكن الأبغض وما يخيفهم حقا هو ثورة هؤلاء الفائضين وغضبهم، الذى لم يتوقف بعد فى أنحاء المنطقة الهائجة.
***
فى يوم ليس ببعيد سيكون هناك اتفاق إيرانى تركى ما، وتواطؤ إسرائيلى ما واستفادة اقتصادية واستراتيجية روسية ما، وساعتها قد يبدأ فصل ختام أكثر دموية لهذه الحقبة السياسية الطويلة. ففى مثل هذا الوقت منذ 100 عام، دخلت معاهدة فرساى حيز التنفيذ لتقوم مع اتفاقات أخرى بتكريس نتيجة الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية وبداية الطريق نحو رسم حدود وخلق الدول القائمة الآن فى بلاد الشام والجزيرة العربية وتقسيمها بين الاستعمار الفرنسى والبريطانى.
والأمل أن تشارك شعوب المشرق العربى بحق هذه المرة فى رسم حدودها ومستقبلها وأطر عيشها، عوضا عن أن تنتقل بفعل انحطاط نخبها الحاكمة وضيق أفق مصالحها وتحجر تياراتها الفكرية وبخاصة الإسلامية، من تحت الهيمنة الأمريكية الإيرانية المتصارعة منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى هيمنة يتعدد أطرافها وينعدم اهتمامها بنظم وقواعد وضعها العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتنمية اقتصادية عادلة، وخوض الحروب بطريقة تحمى المدنيين ومنشآتهم، وأن تمارس الحكومات سيادتها مع احترام حقوق مواطنيها. ويبدو أن تلك الأحلام نفسها تتهاوى مع الأزمة الدولية التى تمر بها هذه النظم والقواعد، وأن علينا إعادة تشكيلها من قلب هذا الخراب المحيط.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved