بين الخاص والعام.. مقاربة مسارات الإصلاح في مصر
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 12 يناير 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
حين دعيت فى صيف ٢٠٢٢ إلى المشاركة فى أعمال الحوار الوطنى وقبلت الدعوة سعيدا ومتطلعا إلى الإسهام قدر الإمكان فى هندسة انفتاح سياسى تدريجى فى مصر، كنت بذلك أترجم إلى اختيار علنى وفعل صريح قناعتى بكون السبيل الوحيد للتقدم الاقتصادى والاجتماعى والسياسى لبلادنا يتمثل فى الإصلاح التدريجى الذى تتشارك بتنفيذ خطواته الكبرى مؤسسات الدولة والحكم مع قوى المجتمع المدنى والقطاع الخاص فى إطار عام تتسع به على نحو مطرد حرية التعبير عن الرأى والحريات المرتبطة بالعمل الحزبى وتتحسن به أوضاع حقوق الإنسان ويتواصل به أيضا الحفاظ على أمن واستقرار مصر وسلامة أراضيها وسيادتها الوطنية.
حينها، فى صيف ٢٠٢٢، دعيت إلى المشاركة فى الحوار الوطنى الذى بادر بإطلاقه السيد رئيس الجمهورية بعد سنوات من انغلاق المجال السياسى وتقييد حرية التعبير عن الرأى، بعد سنوات من معاناة مصر من الإرهاب المقيت الذى تحملت كلفته القوات المسلحة وقوات الشرطة دفاعا عن أمن الوطن وأمن المواطن حتى نجحت فى القضاء عليه، بعد سنوات من انطلاق تجربة تنموية أنجزت الكثير فى مجالات البنى التحتية والمرافق الأساسية وواجهت الكثير من الأزمات الاقتصادية والمالية ومعضلة الاستدانة الخارجية، بعد سنوات من تطبيق الحكومة لبرامج الأمان الاجتماعى (تكافل وكرامة وحياة كريمة) التى ساعدت الشرائح السكانية الأفقر والأضعف ومن استمرار معاناة الفئات محدودة الدخل والطبقة الوسطى من معدلات التضخم المرتفعة وصعوبة الظروف المعيشية.
• • •
وفى الشأن الشخصى، جاءت دعوة الحوار الوطنى بعد سنوات من انتقادى لانغلاق المجال السياسى فى مصر ومطالبتى لمؤسسات الدولة والحكم بالانفتاح على خطوات إصلاحية حقيقية، وجاء الانتقاد كما المطالبة فى كتابات متنوعة وتحاورت حولها على نحو تفصيلى مع العزيز الراحل الأستاذ محمد أبو الغيط فى حلقات من «بودكاست ١١» سجلت فى ٢٠٢١. فى الكتابات، كما فى حوار البودكاست مع محمد رحمه الله وغيره من المداخلات الإعلامية، شددت مرارا على أن إصلاحا يقوده الحكم يعيد إحياء السياسة ويطلق تدريجيا حرية التعبير عن الرأى والعمل الحزبى ويلغى القيود المفروضة على المجتمع المدنى ويحسن أوضاع حقوق الإنسان ويدفع بالقطاع الخاص إلى واجهة النشاط الاقتصادى مع استمرار الحفاظ على الأمن والاستقرار وتقوية مؤسسات الدولة وهى أظهرت خلال السنوات الماضية كفاءة موثقة فى إدارة تحديات الإرهاب المقيت والتعامل مع تداعيات جائحة كورونا، شددت على أن إصلاحا كهذا يمثل مسارا آمنا لتقدم مصر وللتغيير الإيجابى فى برها.
وكنت هنا أعيد قراءة وتقييم حال بلادنا بعد سنوات التقلبات المتتالية بين ٢٠١١ و٢٠٢١، وأبحث عن مسارات آمنة وفعالة للمزج بين الحفاظ على استقرار الوطن ومؤسسات الدولة وبين تحقيق التنمية الشاملة بمضامينها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأقارن بين أوضاع مصر وأوضاع الجوار الإقليمى وبين أوضاعنا وأوضاع بلدان آسيوية (فيتنام) وإفريقية (رواندا) وأمريكية لاتينية (شيلى) تنتمى إلى الجنوب العالمى ونجحت فى صناعة تجارب تنموية شاملة ومستدامة.
• • •
قبل صيف ٢٠٢٢، أشرت أيضا فى مواضع عدة إلى كون انغلاق المجال السياسى فى مصر قد رتب، من جهة، ابتعاد القوى الحزبية وحركات المعارضة الوطنية عن التواصل مع الناس وعن التنافس الحقيقى فى العمليات الانتخابية، وأدى، من جهة أخرى، إلى التقوقع الداخلى لتلك القوى والحركات (أحزاب المقرات المغلقة) وتراجع مواردها البشرية والتنظيمية (نخب المعارضة غير المتجددة) وشيوع الأفكار والممارسات الشعبوية بين صفوفها.
قبل صيف ٢٠٢٢، اجتهدت القوى الحزبية وحركات المعارضة الوطنية لكى تبقى على قضايا الحقوق والحريات وكذلك السجالات الموضوعية حول الأولويات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى حاضرة فى النقاش العام، اجتهدت وأجادت فى ظل قيود قاسية فرضتها عليها مؤسسات الدولة والحكم. غير أن حقائق غياب السياسة والتقوقع الداخلى وتراجع الموارد البشرية والتنظيمية ما كان لها سوى أن تسقط الأحزاب والمعارضة بين الحين والآخر فى مصيدة الشعبوية.
فكان أن أنتجت القوى الحزبية وحركات المعارضة الوطنية، على سبيل المثال، خطابا شعبويا بامتياز فيما خص جزيرتى تيران وصنافير اللتين أعادتهما الحكومة المصرية إلى السعودية وفقا لمقررات تعهدات واتفاقيات ومواثيق ثنائية ودولية تثبت السيادة السعودية على الجزيرتين واعترفت بفحواها حكومات مصرية سابقة، وبسبب تيران وصنافير هاجمت الأحزاب والمعارضة الحكومة متهمة إياها دون وجه حق ببيع التراب الوطنى. وقتها، وكنت بعيدا عن مصر وفى موقع انتقاد انغلاق المجال السياسى وأوضاع حقوق الإنسان، سجلت كتابة أن التعهدات الثنائية والمواثيق الدولية تقضى بسيادة السعودية على الجزيرتين وتنفى عن الحكومة المصرية شبهة بيع التراب الوطنى. وقتها، فى ٢٠١٦، واجهت عاصفة من التشكيك غير المقبول والمزايدة غير الموضوعية من قبل دوائر المعارضة وشخصيات عامة فاعلة على شبكات التواصل الاجتماعى، فقط لكونى تناولت أمر تيران وصنافير بإمكانياتى البحثية وطالعت المتاح من وثائق وخرائط ووصلت إلى قناعة تناقضت مع الخطاب الشعبوى السائد آنذاك ونفت عن الحكومة «بيع الأرض والعرض» وعبرت عنها علانية دون افتئات على حق الأحزاب والمعارضة فى التعبير الحر عن الرأى الآخر.
• • •
وكان أيضا أن دأبت القوى الحزبية وحركات المعارضة الوطنية على صياغة خطاب شعبوى وغير واقعى بشأن مسألة سد النهضة الإثيوبى التى ليس لها أن تحسم على نحو يحمى أمن مصر المائى وحقوقها الأصيلة فى مياه النيل سوى بالأدوات الدبلوماسية المتنوعة (حتى وإن تعثرت المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا وأعلنت مصر مرحليا عدم الاستمرار فيها) وباعتراف متبادل بشرعية مصالح الأمن والتنمية لكافة دول حوض النيل. وقتها، بين اتفاقية إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة فى ٢٠١٥ وبين تحايل الحكومة الإثيوبية على الالتزام بالاتفاقية والأزمات التى رتبتها أفعالها الانفرادية كالملء المتكرر للسد خلال السنوات الماضية، سجلت كتابة أيضا أن رئيس الجمهورية لم يرتكب خطأ استراتيجيا بتوقيع مصر على اتفاقية إعلان المبادئ وبالتفاوض مع إثيوبيا، بل على العكس خلق مساحات للعمل الدبلوماسى إن فى السياق الثلاثى بمشاركة السودان أو على المستوى الإفريقى بمطالبة الاتحاد الإفريقى بالوساطة أو على المستوى الدولى بالتوريط الإيجابى للولايات المتحدة والدول الأوروبية والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى فى مساعى الوساطة بحثا عن تسوية تضمن حقوق بلادنا. هنا أيضا، وعلى الرغم من تفسيرى العلنى لمحددات وخلفيات موقفى، لم يغب التشكيك غير المقبول ولا غابت المزايدة غير الموضوعية على الرغم من التهافت الصارخ لخطاب التصعيد الشعبوى ضد إثيوبيا التى نريد أن نحمى أمننا المائى وحقوقنا الأصيلة فى مواجهة تحايلها وانفراديتها ولا نبحث لا عن صراع معها ولا عن معادلات صفرية، وهذان الهدفان يلزمان بالدبلوماسية والتفاوض والتعاون المشترك. وكما فى شأن تيران وصنافير، امتنعت أيضا فيما خص مسألة سد النهضة وموقفى المساند للتوجه الدبلوماسى والتفاوضى للحكومة المصرية، امتنعت، على الرغم من الألم الشخصى، عن التعاطى مع حملات التشكيك والمزايدة إيمانا بحرية التعبير عن الرأى وعلى أمل أن يتيقن البعض تدريجيا من بحثى عن موضوعية تحول دون «تأييد على طول الخط» أو «رفض من أجل الرفض» وتجتهد فى تخيل مسارات الإصلاح الآمنة والتغيير الإيجابى لبلادنا.
قبل صيف ٢٠٢٢، لم أكن بمزجى بين انتقاد مسئولية مؤسسات الدولة والحكم عن انغلاق المجال السياسى ومطالبتها بالانفتاح على خطوات إصلاحية جادة، ولا بالجمع بين الإشادة بإبقاء الأحزاب والمعارضة على قضايا الحقوق والحريات حاضرة فى النقاش العام وبين انتقاد سقوطها فى مصيدة الشعبوية والمعادلات الصفرية فى التعاطى مع بعض السياسات والقرارات الحكومية، لم أكن لا بهذا ولا بذاك أتنقل من «معسكر النادى الأهلى إلى معسكر نادى الزمالك» حسب التعبير اللطيف الذى استخدمه كاتب أكن له كل الاحترام، وهو الأستاذ بلال فضل، فى التعليق على تقييمى للانتخابات الرئاسية ٢٠٢٤. بل كنت انطلق من قناعات إصلاحية تبتغى شراكة بين مؤسسات الدولة والحكم وبين القوى الحزبية وحركات المعارضة الوطنية والمجتمع المدنى فى المجال السياسى ومجالات الحقوق والحريات وبين المؤسسات العامة وبين القطاع الخاص فى المجالات الاقتصادية والمالية لإنجاز التغيير الإيجابى والتنمية الشاملة فى مصر. كنت أنطلق من رفض صريح للمعادلات الصفرية والأحكام المطلقة، وإيمان لا يتزعزع برغبة جميع أطراف الحياة العامة فى مصر فى تقدمها وتحقيق رفعتها والحفاظ على أمنها واستقرارها لمصلحة أهلها. كنت أدرك جيدا أن قناعاتى الإصلاحية هذه وتفضيلاتى المتعلقة بالشراكة بين الحكم والمعارضة وبين المؤسسات العامة والقطاع الخاص ستجعل كتاباتى تبدو أحيانا رمادية وغير حاسمة، وستدمغ مواقفى العلنية بين الحين والآخر بصفة التأرجح، وستحملنى شخصيا عبء التشكيك والمزايدة. غير أننى لم أتردد فى مواصلة البحث والكتابة والتعبير عن الرأى والموقف، وكنت أقول لنفسى ولعدد صغير للغاية من الأصدقاء أن القناعات الإصلاحية والتوجهات الرافضة للمعادلات الصفرية والأحكام المطلقة تعنى فى الفكر والسياسة براجماتية القول والفعل، وأن البراجماتيين لهم فى تواريخ الأفكار والأمم والشعوب مكانتهم المحفوظة، وأننى لم أرد يوما لا ادعاء زائف ببطولة عن بعد ولا ادعاء أكثر زيفا باحتكار الحقيقة والصواب، بل دوما ما رغبت فى العمل من أجل التغيير الإيجابى فأخطأت وأصبت.
• • •
وحين أطلق الحوار الوطنى فى ربيع ٢٠٢٢ ودعيت إلى المشاركة فى أعماله فى صيف ٢٠٢٢، وجدت فى إطلاقه مساحة حقيقية لتجاوز انغلاق المجال السياسى ولعودة الحوار بين الحكم والمعارضة الوطنية، وآلية لتشجيع النقاش العام حول أولويات مصر الشاملة والبحث فى معالجة أزمات التجربة التنموية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وفى دعوتى فرصة للإسهام الشخصى المتواضع فى هذه السياقات. حينها، فى صيف ٢٠٢٢، تحدثت إعلاميا وكتبت صحفيا مقررا أن الجمهورية الجديدة التى يستطيع الحوار الوطنى أن يساعد فى رسم ملامحها ينبغى أن ترتكز أولا إلى العدل الذى يضمن الحقوق المتساوية لجميع المصريات والمصريين، وثانيا إلى التنمية التى يستحيل تحقيقها دون شراكة فعلية بين الدولة والقطاع الخاص تتيح للأخير مقومات الحرية والتنافسية وحكم القانون التى يحتاجها للازدهار، وثالثا إلى معالجة ما تراكم من اختلالات فيما خص حقوق الإنسان وقضايا الحريات العامة (والتى نشطت بشأنها لجنة العفو الرئاسى وأحدثت فيما خصها خلال السنوات الماضية اختراقات يعتد بها). حينها، لم أتوهم ولو للحظة واحدة أن المسارات الإصلاحية التى سيدشنها الحوار الوطنى لن تواجه بمقاومة من أطراف وقوى عديدة لا تريد لمصر انفتاحا سياسيا أو شراكة تنموية بين المؤسسات العامة والقطاع الخاص، أو أن عملية بناء الجمهورية الجديدة العادلة والتنموية ومعالجة الاختلالات المتراكمة فى مجالات الحريات وحقوق الإنسان والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة ستتم وفقا لخط مستقيم لا تعرجات به ولا وقفات ولا خطوات للأمام متبوعة بعودة إلى الوراء. فتلك مجتمعة هى طبائع المسارات الإصلاحية، وتلك هى حقائق بناء الجمهوريات الجديدة وابتداع عقد اجتماعى جديد يربط بين الحاكم والمحكوم على نحو يضمن العدل والحق والحرية، وتلك هى صعوبات الانفتاح السياسى بعد سنوات من الانغلاق وتحديات الشراكة التنموية بعد سنوات من الانفرادية. حينها، سجلت كتابة أن المشاركة فى الحوار الوطنى لا تأتى بحثا عن «شاى بالياسمين» تقدمه الحكومة، بل تستهدف الإسهام فى الانفتاح السياسى وتنشيط النقاش العام حول أولويات الوطن الشاملة وفقا للفهم أعلاه ودون رفع لسقف التوقعات فى الحاضر أو طرح لرؤى وردية بخصوص المستقبل. سجلت ذلك، واتخذت موقفى الإيجابى بالمشاركة، ودافعت عن وجهة نظرى دون انتقاص من حق أو أهلية من رفضوا الحوار واعتبروه إما مجرد إجراء لتحسين مظهر الحكم أو وسيلة مؤقتة لتهيئة الأوضاع الداخلية للانتخابات الرئاسية ٢٠٢٤ سرعان ما ستنقلب عليها الحكومة فى أعقاب تنظيم العملية الانتخابية.
• • •
فى ٢٠٢٣، شاركت بأعمال المحور السياسى فى الحوار الوطنى وبه تم تناول العديد من القضايا المحورية مثل القوانين المنظمة للانتخابات البرلمانية وسبل تعديلها على نحو ينشط الأحزاب السياسية ويرفع من نسب تمثيلها فى الهيئات التشريعية، والقوانين المنظمة لعمل الهيئات التشريعية وطرق اضطلاعها بمهامها فى الرقابة على السلطة التنفيذية ومناقشة واعتماد الموازنة العامة وفى التشريع المستقل والمعبر عن إرادة الناخبين، والتعديلات القانونية والإجرائية المطلوبة لتمكين الأحزاب من العمل السياسى والتنظيمى بحرية ورفع القيود الأمنية المفروضة عليها، والإجراءات اللازمة لمعالجة اختلالات قضايا الحقوق والحريات وإنهاء ملفات سجناء الرأى المؤلمة ولاستعادة الهويات المفقودة فى المجال العام والإعلامى وفى الحياة الأكاديمية. فى جميع الجلسات التى شاركت فيها على امتداد العام الماضى، اتسمت مداولات الحضور من ممثلى الحكومة وأحزاب الموالاة إلى ممثلى الأحزاب المستقلة وحركات المعارضة الوطنية ومنظمات المجتمع المدنى والكتاب والمثقفين والخبراء بالتنوع واحترام الرأى الآخر وبحث جاد عن نقاط الالتقاء والمساحات المشتركة وصياغتها فى مقترحات قابلة للترجمة العملية من قبل السلطة التنفيذية. فى ٢٠٢٣، أنعش الحوار الوطنى المجال السياسى فى مصر، واستعاد شيئا من الحيوية للنقاش العام حول أولويات الوطن وقضاياه التنموية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، وأخرج الأحزاب السياسية وحركات المعارضة كالحركة المدنية الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدنى إلى حد ما من حالة الحصار الأمنى والتقوقع الداخلى.
وكان فى ذلك، وفى المرحلة الأولى للحوار الوطنى، نجاح يعتد به ولا ينكره إلا من توقع مبالغا أن يأتى الحوار الوطنى بحلول سحرية لأزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو من استمر فى تقييمه السلبى كمجرد «تبييض» لمظهر الحكم. مجددا، لم يكن فى توقع أن يرتب الحوار الوطنى وفورا تداولا للسلطة وحلا لكافة قضايا الحقوق والحريات وعلاجا فعالا لأزمات التضخم والأوضاع المعيشية الصعبة والاستدانة الخارجية والنقد الأجنبى سوى تجاهل غير موضوعى لطبائع المسارات الإصلاحية وصعوبات الانفتاح السياسى والشراكة بين مؤسسات الدولة والحكم وبين المعارضة والمجتمع المدنى والقطاع الخاص، ولم يكن فى التقييم السلبى المهمش للحيوية التى أحدثتها جلسات الحوار فى السياسة والنقاش العام سوى تغليب للمعادلات الصفرية والأحكام المطلقة على رمادية الواقع وتدرجية التغيير الإيجابى فى جميع مناحى السياسة والاقتصاد والمجتمع.
فى خواتيم ٢٠٢٣، توقفت جلسات الحوار الوطنى ما إن بدأت الإجراءات التنظيمية للانتخابات الرئاسية ٢٠٢٤ التى أجريت فى ديسمبر ٢٠٢٣. فرضت عودة السياسة إلى حد ما وحيوية النقاش العام والخروج الجزئى للأحزاب من حالة الحصار الأمنى والتقوقع الداخلى خصائصها على مشهد الانتخابات الرئاسية الأخيرة مقارنة بالانتخابات الرئاسية ٢٠١٨، فترشح ممثلين عن ثلاثة أحزاب سياسية هى حزب الشعب الجمهورى والحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى وحزب الوفد بجانب الرئيس عبدالفتاح السيسى وشارك بالتصويت وفقا لبيانات الهيئة الوطنية للانتخابات ما يقرب من ثلثى الناخبات والناخبين فى مصر. هل يعنى ذلك أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة اتسمت بالتنافسية وأن الحياة السياسية تعافت وتقترب من تداول السلطة ومن الخصائص الديمقراطية الأخرى؟ بالقطع لا. غير أن ترشح ممثلى أحزاب سياسية شكل تحولا يعتد به فى انتخابات ٢٠٢٤ مقارنة بانتخابات ٢٠١٨، تحولا أنتجه من بين عوامل أخرى الحوار الوطنى ويبنى عليه لتمكين الأحزاب من العمل السياسى والتنظيمى والجماهيرى الحر ومن تجاوز حالة الحصار الأمنى التى عانت منها، خاصة أحزاب المعارضة، فى سنوات الانغلاق السياسى. وإذا كانت الهيئة الوطنية للانتخابات سجلت نسبة مشاركة شعبية مرتفعة، فإن مقلوب معادلة هذه النسبة المرتفعة هو أن رئيس الجمهورية وحكومته ومجمل هيئات السلطة التنفيذية صار عليهم وعليها جميعا تقبل المساءلة الشعبية بشأن السياسات والقرارات المطبقة فى جميع مناحى السياسة والاقتصاد والمجتمع وكذلك الاستماع إلى صوت أولويات الناس والتجاوب مع احتياجاتهم المعيشية والتخفيف من معاناتهم. فاستدعاء المواطنات والمواطنين إلى صناديق الانتخابات واكتساب شرعية استنادا إلى المشاركة الشعبية والثقة العامة ليسا فى السياسة كحدث طارئ يحضر استثناء ثم يزول أثره سريعا، بل هما يصبحان معا بمثابة الأمر الملزم للرئيس وحكومته بالتعامل مع المواطنات والمواطنين كناخبات وناخبين لهم خلال الفترة الرئاسية الجديدة حق المساءلة الشعبية والتعبير بحرية عن رأيهم فى أداء الرئيس المنتخب وسياسات وقرارات حكومته وصولا إلى العودة إلى صناديق الانتخابات فى ٢٠٣٠.
• • •
وقد سجلت هذه النقاط فى لقاء تليفزيونى مع المذيعة المتميزة الأستاذة قصواء الخلالى فى ١٢ ديسمبر ٢٠٢٣، وقلت أن الرأسمال السياسى الذى تعطيه الانتخابات لمؤسسات الدولة والحكم وبعد الانفتاح الذى أحدثه الحوار الوطنى وبعد مشاركة ممثلى الأحزاب يلزم بالمزيد من الخطوات الإصلاحية الجادة، وبالمزيد من التفكير فى التعديلات القانونية والإجراءات التنفيذية الممكنة من أجل تنشيط المجال السياسى والحياة العامة وصولا إلى انتخابات برلمانية تنافسية فى ٢٠٢٥، وبالمزيد من الحسم فى مواجهة قضايا الحقوق والحريات العالقة وتحريك عمل لجنة العفو الرئاسى مجددا، وبالعودة إلى جلسات الحوار الوطنى فى محاوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى أساس الشراكة بين الحكومة والمعارضة وبين المؤسسات العامة والقطاع الخاص وبين الدولة والمجتمع المدنى للبحث فى حلول لأزمات بلادنا الصعبة والتى تأتى فى ظروف إقليمية ودولية بالغة الدقة ومحملة بمخاطر عديدة. سجلت ذلك فى لقاء استمر لأكثر من ساعتين، وأراد البعض (ولا أنتقص أبدا من حقهم فى التعبير الحر عن الرأى) أن يقتطعوا من سياقه الشامل مجرد الإشارة إلى المشاركة الشعبية فى الانتخابات وأن يسفهوا منها ويستبعدوا النتائج السياسية لمقلوب معادلتها المتمثل فى مساءلة الناخبات والناخبين للرئيس المنتخب، وأراد البعض الآخر على شبكات التواصل الاجتماعى (وأقبل اختلافهم معى) أن يستخدموا حديثى لتجديد نغمة الرمادية والتأرجح أو (بعبارة بلال فضل اللطيفة) الانتقال من معسكر النادى الأهلى إلى صفوف مشجعى نادى الزمالك. ولم يلتفت فى النقاش العام إلى تشديدى على مسئولية رئيس الجمهورية وحكومته أمام المشاركين فى الانتخابات وضرورة تقبل المساءلة الشعبية وحتمية إطلاق خطوات إصلاحية جادة فى الفترة الجديدة للرئيس عبدالفتاح السيسى سوى الكاتب المتميز والمحترم الأستاذ سليمان جودة فى مقالة نشرها فى جريدة المصرى اليوم فى ١٦ ديسمبر ٢٠٢٣.
لم يحبطنى لا الاقتطاع ولا ترويج نغمة الرمادية والتأرجح، فقد اعتدت على الأمرين منذ ما قبل قضية تيران وصنافير وحسمت أمرى بالسعى إلى الطرح الموضوعى والالتزام بالقناعات الإصلاحية والبحث البراجماتى عن سبل التغيير الإيجابى وعن فرص فعلية للإسهام المتواضع فى تحقيقه وتمكين بلادنا من تجاوز أزماتها الداخلية والتعامل مع المخاطر الإقليمية والدولية، عوضا عن استهلاك الوقت فى صياغة المعادلات الصفرية والأحكام المطلقة أو إنتاج الخطاب الشعبوى، ذلك مع تقديسى الكامل لأهلية ولحقوق وحريات من يختلفون معى إن بعبارات لطيفة أو قاسية.