توحشت اللا مساواة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 12 فبراير 2014 - 5:35 ص بتوقيت القاهرة

أقمت سنوات فى شارع ليبرتادور، أحد أشهر شوارع مدينة بيونس أيرس. اكتسب الشارع شهرته من سمات كثيرة أولها طوله، إذ بلغ طوله عشرة كيلومترات أو أكثر، وثانيها اتساعه، إذ بلغ اتساعه فى بعض الأحياء التى يمر بها ما يزيد على 120 مترا. ثالث سماته روعة وفخامة العمارات السكنية التى كانت تطل عليه من جانب واحد، بينما يطل هو من الجانب الآخر على حدائق شاسعة، تمتد بعيدا لتنتهى عند النهر العظيم، نهر لابلاتا. تتخلل هذه الحدائق وبين أشجارها، فى بعض أجزائها، سلسلة أكشاك، بلغ عددها فى عهدى المائة والعشرين وتعرف بأرقامها، تبيع الشواء لزبائن يتناولونه فى سندويتشات وهم جالسون على مقاعد وموائد خشبية أو متنزهون على شاطئ النهر.

قرأت منذ أيام أن الشارع صار أجمل وأروع مما كان عليه قبل ثلاثين عاما. يسكن الآن على جانبيه أغنى الأثرياء وتقوم فيه أهم المتاحف وأرقى المطاعم وأحدث «المولات» وبيوت الأزياء الراقية. مازال نظيفا. ومازال أيضا يجسد التناقض الرهيب الذى هو حال هذه المدينة الرائعة. فالشارع الذى يمثل قمة الرخاء والترف الأرجنتينى ذائع الصيت منذ مطلع القرن الماضى، كان يبدأ عند طرفه الشرقى بمحطة تنتهى عندها أو تبدأ رحلة القطارات القادمة من الريف والمتجهة إليه. هناك، عند هذا الطرف من الشارع، يلتقى لأول مرة ابن الريف، أو ابنته، القادمة من مدينة صغيرة فى سهول البامباس، بالمدينة الحلم. يقع الانبهار ولا يخفت رغم مشقة وعذاب ولا إنسانية رحلة البحث عن عمل.

•••

هنا عند هذا الطرف من شارع ليبرتادور، نزلت من أحد القطارات فتاة فى أوائل العشرينات من عمرها فى يوم حفر نفسه فى ذاكرتها وذاكرة الأرجنتينيين عموما. بل لعله بتفاصيله ومنها لحظة الانبهار التى صاحبت التقاء ابنة الريف الفقيرة بثيابها الرثة مع أضواء المدينة الصاخبة كان المصدر الذى ولد الطاقة التى فجرت الإبداع عند هذه الفتاة وأطلقت جماح طموحها. فى هذه المحطة، ولحظة وصولها، استلمها رجل ليسلمها بدوره إلى بيونس ايرس، العاصمة المرفهة ولكن عند القاع. عند هذا القاع، حيث الجوع الكافر والفقر المدقع والرجال المتوحشين، تمردت الفتاة فصعدت، واستمرت تصعد، حتى جلست على عرش الأرجنتين، سيدة أولى للبلاد، وسيدة كل الرجال.

ومن القمة حيث تربعت، لم تنس أيام بؤسها وبؤس الملايين من أبناء وبنات الشعب فراحت تصب جام غضبها المكتوم منذ ذلك اليوم الذى وطأت فيه أقدامها أرض محطة «الريتيرو» للقطارات فى مطلع شارع ليبرتادور على سكان هذا الشارع باعتبارهم أغنى أثرياء المجتمع الأرجنتينى. راحت تصادر بضائع محالهم لتوزعها بنفسها على المحتاجين، وتأخذ أموالهم لتبنى بها مصحات ومدارس لأطفال الفقراء، هؤلاء كانوا يعيشون فى عشوائيات عرفت باسم «قرى البؤس»، أقامها المهاجرون أمثالها على الطرف الآخر من الشارع. اختاروا أن يعيشوا فى بيوت من الصفيح والخشب هربا من شظف الحياة فى الريف.

•••

تذكرت حكاية ايفا بيرون، الممثلة الريفية المتواضعة التى هبطت على العاصمة بيونس ايرس، وتذكرت الشارع الذى كان أول ما وقعت عليه عيناها بعد خروجها من محطة القطارات، تذكرتهما وأنا اقرأ تقريرا عن الفجوة الرهيبة فى الدخول التى يعانى منها المجتمع الأرجنتينى هذه الأيام، وكنت قد انتهيت للتو من الاستماع إلى خطاب حال الاتحاد الذى ألقاه الرئيس باراك أوباما قبل أيام وركز فيه على «إحدى أخطر القضايا التى تهدد مستقبل أمريكا»، وهى قضية «الفجوة الرهيبة» فى دخول الأغنياء والفقراء.

تؤكد تقارير صادرة عن مراكز بحوث وجامعات غربية أن «اللا مساواة» بلغت فى معظم أنحاء العالم حدا ينذر بالخطر، وأن الفجوة الناتجة عن هذه اللا مساواة لم تتوقف عن الاتساع منذ عقد السبعينيات، وأنها، أى اللامساواة، تكاد تمثل سببا رئيسا وراء انتشار عدد من الأمراض العقلية ووراء التغيير فى سلوكيات البشر، الظاهرة التى لا ينكرها الأطباء ومنظمة الصحة العالمية ويشهد عليها المراقب العادى. وجدت شيرى جونسون، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلى أن عددا من السلوكيات المتصلة بتفاوت الثروات منها زيادة الرغبة فى ممارسة الهيمنة تتسبب فى أمراض عقلية خطرة، وأن هذه السلوكيات تكثر بشدة فى المجتمعات التى تهتم بالمكانة والأولوية والثروة والأقدمية فى مواقع العمل. لاحظت السيدة جونسون فى دراستها زيادة كبيرة فى «النرجسية» نتيجة ممارسة الهيمنة وفرض الخضوع والخنوع على الآخرين. وفى أحيان كثيرة يصاب «المهيمن» أو «المترئس» بالهوس، أما الأشخاص الذين اعتادوا ممارسة الخنوع أو الخضوع لرؤسائهم أو لقادة فى المجتمع أو لكبار السن أو للمشاهير عموما، فهؤلاء يصابون غالبا بمرض الاكتئاب الشديد وكذلك القلق. يختارون الانعزال عن المجتمع أو التقوقع على الذات فى مواقع العمل أو فى إطار العائلة، وبعضهم، يصابون بحالات خطرة من «الاضطراب الوجدانى ثنائى القطب» Bipolarism.

لاحظت الدراسة أيضا انه فى المجتمعات التى تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد الرغبة فى تضخيم الذات. تشير الإحصاءات الحديثة إلى أنه فى أمريكا منذ الثمانينيات ازداد «معدل الاصابة بالنرجسية» Rate of Narcisism زيادة كبيرة، مع ما يصاحبها عادة من إمساك عن الانفاق فى فعل الخير والبخل المتزايد. ازدادت أيضا الشكوى من الشعور بالدونية Inferiority. بمعنى آخر، يغلب على الناس الانشغال غير المبرر بما يعرف بإدارة الصورة الذاتية، بمعنى الحاجة الدائمة والملحة إلى معرفة كيف يراهم الآخرون وكيف يبدون فى المظهر وماذا يتردد عنهم فى جلسات النميمة ودوائرها. بهذه السلوكيات ينخفض معدل السعادة فى المجتمع، فالإنسان العادى فى مجتمع تسود فيه اللا مساواة وتتسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء يصبح أقل لطفا فى التعامل مع غيره، ولا يكف عن الحديث عن نفسه وبذل الجهد لتضخيمها، وفى النهاية تتضاعف فرص إصابته «بحالة من القلق المستعصي» Status Anxiety.

•••

أفهم الآن دوافع بول كروجمان، الكاتب الاقتصادى الحاصل على جائزة نوبل، فى الحملة التى يقودها فى الصحف والجامعات الأمريكية محذرا من تفاقم أزمة اللا مساواة فى الدخول فى المجتمع الأمريكى، يعتقد كروجمان أن الطبقة الوسطى هى التى تدفع ثمن هذه اللا مساواة التى توحشت فى أغلب بلاد العالم.

مثل هذه الفجوة، عانت منها الأرجنتين على امتداد عشرات السنين وكان نتيجتها انقلابات عسكرية متلاحقة وأزمات اقتصادية واجتماعية عديدة، وتشكو منها الصين بعد سنوات من الرخاء واختارت من أجل الحد من عواقبها على السلم الاجتماعى تسليم الحكم لجيل جديد من القادة، وعانت مصر منها منذ ثمانينيات القرن الماضى، وها نحن ندفع ثمنها غاليا من مخزون القيم والتحضر واللحمة الوطنية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved