اشتعال الحرب الباردة.. حرب خليج الخنازير!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 12 فبراير 2022 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

 

بعد أن رتبت الحرب الباردة أوراقها إثر العدوان الثلاثى على مصر، وتأكدت قيادة الولايات المتحدة للمعسكر الغربى على حساب بريطانيا، وقيادة الاتحاد السوفيتى منفردا للمعسكر الشرقى بعدما أخذ النظامان الشيوعيان فى الاتحاد السوفيتى والصين يتباعدان تدريجيا، شهدت نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات اشتعال المواجهات السياسية والعسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى ووكلائهما فى آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية. فبعد العدوان الثلاثى تواجه الطرفان فى لاوس، حيث دعم الأمريكان النظام الملكى اليمينى هناك، بينما دعم السوفييت الأحزاب اليسارية فى مواجهات شبه عسكرية دعمها الطرفان بالمال والسلاح والأيدولوجيا، كذلك فقد كانت برلين على مشارف أزمة ثانية بعد أزمة حصارها بواسطة السوفييت قبل ذلك بسنوات قليلة، حيث أراد الاتحاد السوفيتى الانقلاب على الاتفاقية الرباعية التى تعطى للسوفييت حق التواجد العسكرى فى برلين الشرقية من ناحية، والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حق التواجد فى برلين الغربية من ناحية أخرى.
لكن المواجهة هذه المرة كانت فى كوبا، تلك الجزيرة المتاخمة لولاية فلوريدا الأمريكية والتى لطالما شكلت بؤرة اهتمام عسكرى وسياسى للولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر. فكوبا التى وقعت تحت الاحتلال الإسبانى لعقود تم تحريرها بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية القرن العشرين، ولكن لم يكن ذلك التحرير مجانيا بكل تأكيد، فمقابله سيطرت الولايات المتحدة على سياسة وجيش واقتصاد الجزيرة الكوبية، فهاجر البيض الأمريكان للاستيطان فى الجزيرة، وتم تعيين رئيس كوبى مولود فى الولايات المتحدة، السياسى استرادا بالما Tomás Estrada Palma كأول رئيس للبلاد.
ولكن وفى عام ١٩٤٨ تم انتخاب الرئيس الكوبى سوكاريس Carlos Prío Socarrás وهى الفترة التى شهدت انفتاح البلاد ديموقراطيا قبل أن يطيح به انقلاب عسكرى بقيادة الجنرال العسكرى باتيستا Fulgencio Batista، وهو الانقلاب الذى تم اتهام الولايات المتحدة بالوقوف خلفه، مما أشعل الثورة الكوبية ضد الحكم العسكرى المحسوب على الأمريكان. قامت تنظيمات عدة شبه عسكرية، قادها مفكرون وسياسيون وطلبة، ولكن الحركة الأكثر تأثيرا فى الثورة كانت حركة ٢٦ يوليو والتى قادها الشاب الثائر اليسارى فيديل كاسترو Fidel Castro!
• • •
كانت حركة ٢٦ يوليو هى الأكثر نجاحا والأكثر تأثيرا فى قيادة الثورة الكوبية، حيث تكونت من عشرات الخلايا السرية العسكرية التى لا يعلم أعضاؤها بوظائف أو بأماكن الخلايا الأخرى، وأخذت الحركة فى قيادة حركة مسلحة أجبرت باتيستا فى النهاية على الاستقالة والهروب من البلاد فى ١٩٥٨ ليتولى رفاق كاسترو شئون الحكم ويقتربون بشكل أكبر من الاتحاد السوفيتى!
لم تكن الثورة الكوبية بالشأن الهين بالنسبة للولايات المتحدة، لأن التهديد هذه المرة جاء متاخما لحدودها بنظام شيوعى مناوئ، ورغم أن نجاح الثورة فى كوبا كان بمثابة فشل مباشر لإدارة الرئيس روزفلت، إلا أن الآثار السياسية الحقيقية تحملها الرئيس جون كينيدى والذى تم انتخابه إلى البيت الأبيض فى ١٩٦٠ ليرث ذلك الإرث الثقيل ويصبح مطالبا بالتعامل معه!
قام النظام الجديد فى كوبا بتأميم كل الأملاك والصناعات الأمريكية وتحديدا شركات البترول ومصانع السكر والبنوك بشكل أدرك معه الأمريكان أن المواجهة آتية لا محالة! بدأت المخابرات الأمريكية فورا تدعيم ثورة مضادة لكاسترو عن طريق الدعم المادى والعسكرى للمناوئين لنظامه من ناحية وشن الحملات السياسية ضد ما أسمته الولايات المتحدة «الخروقات البالغة لحقوق الإنسان ووأد الديموقراطية»، ووصل الأمر إلى تخطيط عدة محاولات لاغتيال كاسترو وخصوصا بعد أن أصبح الاتحاد السوفيتى هو المتحصل الأول على البترول الكوبى، ولكن كلها باءت بالفشل ولم تؤد إلا إلى المزيد من التوتر بين الدولتين.
• • •
قبل أشهر من نهاية ولاية الرئيس روزفلت Theodore Roosevelt وافق الأخير على خطة قدمتها المخابرات المركزية الأمريكية لدعم عملية غزو محدود لكوبا بواسطة قوات كوبية معادية لكاسترو يتم تدريبها ودعمها بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، وتم تخصيص ١٣ مليون دولار بالفعل لتنفيذ الخطة. كانت تأمل المخابرات الأمريكية تنفيذ الخطة قبل نهاية حكم روزفلت خشية تغير الوضع حال انتخاب رئيس جديد، ولكن لأسباب لوجستية عديدة تم تأجيل التنفيذ لما بعد الانتخابات التى شهدت تنافسا بين كينيدى John F. Kennedy المرشح الديموقراطى وريتشارد نيكسون Richard Nixon نائب روزفلت والمرشح الجمهورى فى الانتخابات. وفور نجاح كينيدى حاولت المخابرات الضغط على الرئيس الأمريكى سريعا من أجل التنفيذ، فتم اطلاعه على تفاصيل خطة الإطاحة بكاسترو بعد وصوله إلى البيت الأبيض بأسبوعين فقط. لكن تردد كينيدى بقوة فى تنفيذ الخطة، من ناحية لأنه لم يرغب فى أن يكون محسوبا على الجنرال العسكرى باتيستا والذى شهد العام الوحيد لحكمه (١٩٥٢ــ١٩٥٣) إعدام الآلاف من المعارضين، ومن ناحية ثانية لأنه كسلفه روزفلت كان يخشى التورط العسكرى فى كوبا خشية المواجهة المباشرة مع السوفييت.
أدخل كينيدى تعديلات بسيطة على العملية بحيث يكون بتنفيذ انفصاليين كوبيين بشكل كامل وتشهد أقل استخدام ممكن للقوة العسكرية، وبالفعل تم تشكيل مجلس ثورى انفصالى من المعارضين الكوبيين فى فلوريدا للإشراف المباشر على العملية التى تم تنفيذها فى ١٧ أبريل من ١٩٦١.
• • •
على مدار ثلاثة أيام قامت القوات الكوبية المدعومة أمريكيا بعمليات إنزال جوى وبرى وبحرى على منطقة خليج الخنازير بكوبا، لكن قوات فيدل كاسترو خاضت معارك ضارية ضد القوات الغازية. وبعد مقتل العشرات من القوات الغازية والقبض على عشرات آخرين، قامت القوات الغازية بالانسحاب وسط خيبة أمل شديدة لكينيدى الذى تعرض للإحراج الدولى والإقليمى والداخلى فى أول أشهر حكمه!
كان هذا الفشل بمثابة تأكيد لزعامة كاسترو والذى شكّل إلهاما للعديد من الحركات اليسارية فى أمريكا اللاتينية والعالم، كذلك أدت هذه العملية إلى المزيد من التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، ولذلك لم يفوت كينيدى المأزوم داخليا وخارجيا الفرصة حينما تلقى رسالة من الزعيم السوفيتى خروتشوف Nikita Khrushchev عن طريق السفير الأمريكى فى موسكو للقاء بشكل شخصى من أجل التباحث فى نقاط الاشتباك بين البلدين. ورغم تحذيرات معاونى كينيدى من التسرع فى إجراء هذا اللقاء لعدم الوثوق فى نوايا الزعيم السوفيتى، إلا أن كينيدى أصر على تنفيذه من أجل تهدئة الأوضاع الدولية وحفظ ماء وجهه، وبالفعل تم اللقاء التاريخى فى يونيو بالعاصمة النمساوية فيينا.
على مدار يومين تناقش الزعيمان فى عدة مواضيع، أهمها عملية خليج الخنازير والتأكيد على عدم التدخل فى الشأن الكوبى، بالإضافة إلى قضية برلين والتى شكلت إزعاجا كبيرا للاتحاد السوفيتى بعد قيام أكثر من مليونى مواطن فى برلين الشرقية بالهجرة إلى برلين الغربية، مما دعا خروتشوف لطلب عقد مباحثات سلام بخصوص برلين تنهى الاتفاق الرباعى (الذى قسم برلين بين الاتحاد السوفيتى وباقى قوى التحالف) بعد الحرب العالمية، بحيث تصبح برلين موحدة وتابعة لألمانيا الشرقية، بينما يبقى الأمريكان والبريطانيون والفرنسيون على تواجدهم فى دولة ألمانيا الغربية، وكذلك طلب الاتحاد السوفيتى من الجانب الأمريكى العمل على حياد كل منهما تجاه النزاع على السلطة فى لاوس.
ورغم اتفاق كينيدى وخروتشوف على عدم التدخل فى الشأنين الكوبى وشأن لاوس، إلا أن تغيير الاتفاق الرباعى بخصوص تقسيم برلين بحسب طلب الاتحاد السوفيتى رُفض بواسطة كينيدى لتفشل المحادثات، وهو ما أدى إلى اندلاع أزمتين دوليتين بين المعسكرين، إحداهما فى برلين والثانية فى كوبا للمرة الثانية، وهو ما نتناوله فى المقالة القادمة.
ملحوظة: اعتمدت المقالة فى بعض فقراتها على ورقة بحثية بعنوان «إدارة الأزمة فى مركز الموت: الانتقال الرئاسى ١٩٦٠ــ١٩٦١ وفشل خليج الخنازير» بواسطة الباحثة ريبيكا فريدمان من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى والمنشورة فى دورية «دراسات رئاسية» فى يونيو ٢٠١١.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved