سوريا بعد الزلزال.. مفارقات وتحديات

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 12 فبراير 2023 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

بين الإنسانى والسياسى تبدت مفارقات فادحة بعد الزلزال المروع، الذى ضرب مناطق شاسعة فى تركيا وسوريا، وأعلنت تحديات وجودية عن نفسها مجددا.
نالت ضربات الزلزال بقسوة بالغة من المنطقة الحدودية الشاسعة بين الجنوب التركى والشمال الغربى السورى، التى شهدت على مدى اثنى عشر عاما صراعات وصدامات واحترابات على المصير، كأننا أمام رسالة مختلفة من نفس المكان.
استبقت الزلزال احتمالات عملية عسكرية تركية فى الشمال السورى بذريعة حماية أمنها القومى من تهديدات الجماعات الكردية المسلحة وتناقضت المواقف بين دمشق وأنقرة.
بضغوط دولية توقفت العملية العسكرية قبل أن تبدأ، غير أن الأزمة ما زالت ماثلة فى المكان، على الحدود السورية وداخلها.
أزمات أخرى أخطر وأفدح لم تخفت فى ذاكرة المكان.
فى المشاهد الأولى من الأزمة السورية اكتسبت مدينة «غازى عنتاب»، المدينة التركية الأكثر تضررا من الزلزال، دورا جوهريا فى تجميع من أطلق عليهم «المجاهدون» بمعسكرات قبل تمريرهم إلى الداخل السورى.
كان ذلك تعبيرا عن صراع دام يوشك أن يدخل سوريا فى حمامات دم استهلكت طاقتها وحيويتها وأية آمال معلقة على مستقبلها.
الصور الآن اختلفت، لكن المرارات عالقة تبحث عمن يخفف وطأتها.
على الجانب التركى من الحدود تعالت دعوات من منظمات إنسانية لفتح الممرات لإدخال المساعدات والإغاثات وأدوات إنقاذ آلاف الضحايا السوريين العالقين تحت الأنقاض.
رغم النداءات الدولية المتواترة بعدم تسييس مأساة الزلزال، أو تأخير المساعدات الإنسانية إلى السوريين بأية ذريعة، إلا أن التباطؤ الدولى كان ملحوظا فى مد يد العون.
لا أدخلت أدوات قادرة على رفع الأنقاض وإنقاذ أسر بأكملها من الموت المحقق، ولا وصلت الإعانات الضرورية فى وقتها المناسب لإبقاء القدرة على الحياة لمن تهدمت بيوتهم ووجدوا أنفسهم مشردين.
الفكرة الرئيسية فى الإغاثة الإنسانية أن تصل فى وقتها، أو ألا تتأخر كثيرا عن موعدها.
القيم الإنسانية تتطلب ألا تكون هناك تفرقة بين الضحايا حسب جنسياتهم، أو مواقفهم السياسية.
الاختبار الأخلاقى حاسم فى مثل هذه الظروف.
سياسيا: لم تتردد دولة واحدة فى العالم عن إبداء تضامنها الإنسانى مع تركيا وسوريا وإبداء رغبتها للمساعدة فى غوث الضحايا ــ أمريكا وروسيا المتحاربتان فى أوكرانيا، الاتحاد الأوروبى والصين رغم تناقض موقفيهما فى تلك الحرب، أوكرانيا نفسها، ولا أحد تخلف.
واقعيا: لم تحظ سوريا بذات سرعة وصول المساعدات والإغاثات الضرورية، ولا اتسقت الوعود العامة مع الأفعال فى الميدان.
كان ذلك داعيا لنداءات استغاثة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والمنظمات الدولية، فالوقت يمضى، وأعداد الضحايا تتزايد، وفرص الحياة أمام العالقين تحت الأنقاض تقل بالوقت.
فى تبرير تأخر وصول المساعدات للضحايا السوريين قيل إنه لا توجد آليات تسهل المهمة الإنسانية العاجلة، كما لا تتوافر سلطة موحدة تحكم قبضتها على كل أراضيها، والمشاكل اللوجيستية تحول دون وصول المساعدات بيسر، فالمعابر شبه مهجورة، وبنية الطرق غير صالحة.
كانت تلك نصف الحقيقة.
فعلا: المناطق السورية المنكوبة تتوزع السيطرة عليها بين ثلاثة أطراف متنافرة.
أولها ــ يخضع للمركز فى دمشق، وثانيها ــ تحت سيطرة مجموعات مسلحة متشددة تحظى بحماية تركية، وثالثها ــ تتبع لهيمنة الجماعات المسلحة الكردية، التى تناهضها تركيا وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون.
النصف الآخر من الحقيقة أن التباطؤ فى إيصال المساعدات كان استطرادا غير معلن للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا.
كان التسييس حاضرا فى الملف الإنسانى، رغم النداءات الدولية المتواترة بسرعة إدخال المساعدات والآلات الضرورية لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض.
حين ضج الضمير الإنسانى بدأت تتحرك الأمور بعض الشىء، لكن بمستوى أقل مما يتطلبه الوضع المأساوى فى ظل صقيع لا يحتمل.
فى المحنة السورية كشف شعبها عن قوة إرادة الحياة عنده، رغم قسوة ظروفه.
نهض للمساعدة فى إنقاذ الضحايا، لكنه يحتاج إلى ما هو أكثر.
يحتاج إنسانيا أن يقف معه العالم العربى، أن ينظم حملات دعم وإسناد بما يحتاجه من ضرورات حياتية، أن يرفع الحصار عنه قبل أن يطالب الغرب بإنهاء العقوبات الاقتصادية.
ويحتاج سياسيا إلى البحث الجدى فى سبل إنهاء عزلة سوريا وعودتها إلى عالمها العربى مجددا لاعبا رئيسيا حاضرا فى قضاياه.
قبل الزلزال أعلن رسميا عن أن هناك لقاء محتملا بين الرئيسين السورى «بشار الأسد» والتركى «رجب طيب أردوغان».
المأساة المشتركة قد تساعد على دفع فرص المصالحة، أو خفض مستوى الأزمة بأقل تقدير، بحثا عن تسوية سياسية يصوغ مقوماتها الدستورية السوريون وحدهم.
تركيا دولة إقليمية كبيرة ولاعب رئيسى لا يمكن تجاهله غير أن تبعات الزلزال قد تؤثر على المستقبل السياسى لـ«أردوغان» قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
هو نفسه أشار إلى مثل هذا الاحتمال بإبداء خشيته من «تسييس الزلزال لأغراض داخلية».
فى الأوضاع المستجدة قد يجد نفسه مدعوا للمضى أبعد مما كان متوقعا بالانفتاح على سوريا وتخفيض مستوى التوتر مع مصر والانفتاح على الخليج.
بالنسبة لدولة كمصر فإن من مصلحتها الاستراتيجية أن تتداخل بقدر ما هو ممكن فى دفع مشروع المصالحة إلى أبعد نقطة متصورة.
بحقائق الجغرافيا السياسية سوريا مسألة أمن قومى لمصر قبل غيرها.
لم تكن مصادفة أن سوريا ــ بالذات ــ هى البلد الذى احتضن الفكرة العروبية الحديثة قبل غيره.
كما لم تكن بلاغة تعبير أن توصف بـ«قلب العروبة النابض».
بحكم موضعها فى المشرق العربى فهى عاصمته الطبيعية.
وبحكم اتصال الأمن القومى المصرى بها فهى توءمته.
وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط فهى مركز استراتيجى.
سوريا قضية مصير، هكذا بالضبط.
التضامن مع شعبها فى محنة الزلزال ليس فضلا أو منة، إننا نتضامن مع أنفسنا.
التحدى الأهم الذى يطرح نفسه الآن علينا: إنهاء عزلة سوريا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved