لغة العيون

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الإثنين 12 مارس 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالًا للكاتب خالد القشطينى وجاء فيه: قلما يكذب الإنجليز، ولكنهم يسكتون، والسكوت نوع من الكذب الرقيق، قلما ينطقون بشىء، ولكنهم يغمزون، وهذا الأسلوب متغلغل فى جل أنماط الحياة الإنجليزية، يرمش الزوج بجفنيه، فتفهم الزوجة أنه يقول: «أريد أن أخرج هذه الليلة»، وتصمت الزوجة، فيفهم أنها تقول: «لا مانع لدى»، ثم تنفجر العلاقة فى الأخير، وينتهيان أمام قاضى الطلاق، فلا يجد القاضى أمامه كلمة أو ورقة واحدة تهديه للحقيقة، ولكنه هو الآخر يعتمد على لغة العيون، ينظر فى عينى الرجل وفى عينى المرأة، ويراقب ارتجاف الأجفان وزوغان الحدقة، فيعرف من الكاذب ومن الصادق، القاضى هو الآخر خبير بلغة الغمز والصمت.
والغمز والصمت هو المؤشر الأعظم لنظام المرور فى بريطانيا، أنظر فى عينى الشرطى، فيفهم سؤالى: أيمكننى الوقوف هنا؟ يوسع حدقة عينه، فأفهم: «كلا، لا يمكن»، أو يدير نظراته إلى الجانب الآخر، فأفهمه يقول: «افعل ما يعجبك»! يحدث اصطدام، فيحضر الشرطى للمحكمة ويقول صادقا ويحلف اليمين بأنه لم يقل لك أى شىء، وعندئذ، على القاضى أن يحدق فى عينيه ليعرف الحقيقة.
وهذا هو السر فى التباين بين مدرسة القضاء الفرنسى ومدرسة القضاء الإنجليزى؛ يكون التركيز فى القضاء الفرنسى على الكلمة المكتوبة وتفسيرها، فى حين يقع التركيز فى القضاء الإنجليزى على قناعة القاضى والمحلفين، والسبب واضح، فلا يمكن للمشرع أو محرر العقد أن يضع نصا لرموش العين وغمزاتها، ولهذا أيضا يصعب عليك أن تحصل على رأى قاطع من محامٍ إنجليزى، يقول لك: تتوقف النتيجة على الانطباع الذى ستتركه فى ذهن القاضى، ولهذا فالنصيحة لكل من تلقيه الأقدار أمام محكمة إنجليزية هى: «انس كل شىء، وخلى بالك على عينيك!».
هذا ما يجرى أيضا على أعلى مستويات السياسة والدبلوماسية البريطانية، التاريخ السياسى لهذا البلد غاص بالألغاز والقضايا الغامضة، خذ منها وعد بلفور، والمقصود بعبارة «الوطن القومى لليهود». هل عنى بلفور بذلك إقامة دولة يهودية، وفهم الصهاينة منه أن الهدف هو كذلك، وقضى الباحثون أعواما طويلة يحاولون ويجادلون حول هذه النقطة؟ والسبب فى ذلك أن الإنجليز يتحركون بلغة العيون، لغة الغمز واللمز، ولم يسجل أحد كيف زاغت عين بلفور عندما وقع على النص.
فى بوتقة غموض مشابه، وقع الباحثون فى قيام الطائرات البريطانية بمحق مدينة دريزدن فى ألمانيا، فلا يوجد نص على الأمر بذلك، ظهر أن تشرشل غمز بعينيه لآمر القوة الجوية البريطانية، ففهم منه أن اذهبوا وامحقوا هذه المدينة عن بكرة أبيها، وكذا كان أمر إعدام ستالين للأسرى السوفييت «الخونة» الذين وقعوا أسرى بيد الإنجليز، كيف وافق مكميلان على تسليمهم لستالين؟ لا توجد وثيقة عن ذلك، ويظهر أن آمر الحرس نظر فى وجه مكميلان، ففهم من عينيه: «نعم، سلمهم».
التاريخ ملىء بأسرار العيون السكسونية، كان منها أخيرا تصريحاتهم بضرب الأسد، إذا ثبت أنه استعمل الغازات السامة، هذا شىء ثبت عدة مرات، ولكن يلوح لى أنهم ينتظرون غمزة عين من تيريزا ماى.

الشرق الأوسط ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved