الإدارة بالغموض

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: الثلاثاء 12 أبريل 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

فى بعض الحالات يكون الغموض مطلوبا، والسرية ضرورية، فمن الرأى العام ما قتل، وليس كل ما يعرف يقال، ولكن حين يتحول «الغموض» إلى آلية مبتغاة فى ذاتها لإدارة الشأن العام، حتى فى أكثر الملفات حساسية، يصبح الأمر محل تساؤلات، أكثرها بساطة الاعتبارات الشخصية فى تفضيل المسئولين الصمت عن البواح، وأكثر تعقيدا عدم تقدير حق الرأى العام ذاته فى المعرفة.

ملفات كثيرة يثار حولها ضجيج، غالبيته إعلامى، ويغيب عنها الموقف الرسمى، أو يقتصر على عبارات عامة لا تسمن من جوع، ولا تكشف غامضا يريد الناس استجلاءه. آخر المواقف التى لفها الغموض هو موضوع الجزيرتين «تيران وصنافير» الذى شهد كثافة إعلامية، أو ما اصطلح على تسميته «هرى إعلامى»، فى حين كان الكلام الرسمى متأخرا، ومحدودا جدا. قس على ذلك موضوعات كثيرة، وهو ما يجعل الناس فى حالة «هرى» طوال الوقت، تبحث عن معلومات تطمئن إليها، ولاسيما فى ضوء تصريحات مدسوسة نفاها أصحابها، ومنها التصريح المزعوم الذى جاء على لسان سفير السعودية فى مصر، والذى مفاده أن المسئولين المصريين عرضوا على السعودية هاتين الجزيرتين فى حين لا تمتلك بلاده أية مستندات أو وثائق بشأنهما، وهو تصريح جرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعى، ونفاه السفير السعودى، وهو بالمناسبة لا يستقيم مع المنطق، فلا يوجد مسئول فى أى دولة يتحدث بهذه اللغة، وكأنه ينفى عن بلده ما تراه حقا تتمسك به.

حالة من «الهرى الإعلامى»، المصطلح الذى تقاذفه الخصوم على «الفيس بوك»، سببها الرئيسى غياب المعلومات، وعدم وضع تصور لمخاطبة الرأى العام. وهى حالة أضحت متكررة، وتضطر أحيانا رئيس الجمهورية إلى مخاطبة الناس مباشرة، مدافعا عن سياساته وموضحا عوائد برامجه. يبدو أن الحكومة باتت لا تمتلك آليات مخاطبة الرأى العام، وليس لديها كوادر تعينها على ذلك، يتحركون من منطلق وظيفى أكثر من الرؤية السياسية، وأخشى أن يكون هناك شعور دفين امتدادا لمقولة مبارك الشهيرة «سيبهم يتسلوا»، لكن التسلية هنا ليست مبهجة، بل تراكم الشعور بالإحباط والغضب، وتجعل الناس مستعدة لتقبل شائعات، ودعاية مضادة، فريسة مستمرة لحالة «الهرى الإعلامى»، لا تجد مسئولا يرد على تساؤلات الناس، تزيدها وسائل الإعلام ذاتها بلبلة، ويشعرون فى النهاية أنهم يتحدثون مع بعضهم، ويتشاجرون على مواقع التواصل الاجتماعى مع بعضهم بعضا.

الغموض لا يبنى مجتمعات، ولا يجعل هناك رأيا عاما مساندا لأية سياسات، يكثر المزايدون والمدعون، وأصحاب المعارك المجانية، ويغيب معرفة الناس بما يجرى على أرض الواقع، والذى قد يكون فيه أحيانا ما يبهجهم ويمنحهم أملا. الغموض المرتع الأساسى للفساد، الصمت يخفى كلاما ينبغى أن يصل إلى الأسماع، ولا يوجد أفضل من بيئة الغموض لتوسيع أرجاء الخوف، والقلق، وغياب اليقين فى المستقبل.

لم يعد الغموض حلا أو الصمت مقبولا، خاصة إذا كنا ما زلنا نريد أن يكون الناس هم بناة المجتمع الجديد، مؤيدين له، الحل فى كشف الحقائق، والحديث مع الناس، الوضوح والصراحة، والمعرفة البناءة، حتى لو كان بعضها محزنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved