من أين يأتى هؤلاء الانتحاريون؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 12 أبريل 2017 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

هل فرض حالة الطوارئ فى مصر كان ضروريا؟

بقدر المصارحة تكتسب الإجابة جديتها.

لم يكن فيما قاله رئيس الوزراء «شريف إسماعيل» أمام المجلس النيابى ما يؤكد فرضية أنه لم يكن هناك سبيل آخر غير «الطوارئ» وما تنطوى عليه من إجراءات استثنائية.

ما حجم الخطر بالضبط؟

هذا هو السؤال الأكثر إلحاحا.
فى توقيت متزامن روعت مصر بعملين انتحاريين استهدفا كنيستى طنطا والإسكندرية وكشفت الصور عمق المأساة بذات قدر أوجه القصور.
الأمن المطلق وهم مطلق.
هذه حقيقة تظل حاضرة فى مثل هذا النوع من الأعمال الإرهابية، غير أن النقص الفادح فى المعلومات يسمح للانتحاريين أن يصلوا بسهولة نسبية إلى عين المواقع التى يستهدفونها.
لو أن الإجراءات الأمنية على أبواب كنيسة الإسكندرية كانت بذات درجة التراخى، التى تبدت فى طنطا، لجرى الوصول إلى البابا «تواضروس الثانى» حيث يصلى بداخلها.
وكانت تلك كارثة محتملة لا مثيل لها فى التاريخ المصرى وتفضى لفتن بلا نهاية.
إذا لم يتم الاعتراف بأوجه القصور الأمنى والتعرف على أسبابه والعمل على سد ثغراته فإن مثل هذه الجرائم الإرهابية سوف تواصل ضرباتها فى مناطق الوجع، ولا يكون هناك أى جدوى من فرض حالة «الطوارئ».
‫«‬الطوارئ» بذاتها رسالة سلبية للعالم بأن الأوضاع غير مستقرة وغير طبيعية، بما يؤثر بالسلب على فرص جذب الاستثمارات الأجنبية ورفع معدلات تدفق السياح، التى تراجعت فى السنوات الأخيرة.
بأى قدر من الرشد السياسى لابد من مصارحة الرأى العام بحيثيات فرض «الطوارئ» والسعى إلى اختصار مدتها بقدر ما هو ممكن.
كما أنها لا تمثل حلا دون إعادة نظر جذرية فى الوضع العام كله والسعى لبناء استراتيجية متماسكة، تغيب بفداحة، تدرك طبيعة حربها مع الإرهاب، وأين الثغرات الحقيقية لا المتوهمة، بقدر ما تدرك ضرورات التماسك الوطنى وضمانات حقوق المواطنين.
من أسوأ ما يتردد تحت قبة البرلمان، أو على بعض الشاشات، التلويح بقبضات «الطوارئ» ضد أى قدر من الحريات الصحفية والإعلامية.
بمعنى آخر: أين ميدان المواجهة؟ .. صالات التحرير فى الصحف والفضائيات أم تمركزات العنف والإرهاب؟!
مثل ذلك التلويح يسحب على المفتوح من أى تماسك وطنى ضرورى فى مواجهة الإرهاب، ومن كل تضحية تبذل بفواتير الدم.
إذا ما أردنا مواجهة جادة مع خطر وجودى يمثله الإرهاب فإن أى إجراءات استثنائية لا يصح أن تتعدى دائرة المشتبه فى ضلوعهم بالإرهاب إلى الذين يناهضونه.
ثم إن إحالة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التى أبطلها حكم نهائى من المحكمة الإدارية العليا، إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بالمجلس النيابى فى ذات يوم إعلان الطوارئ يثير تساؤلات ويزكى مخاوف استخدام «الطوارئ» لغير الحرب مع الإرهاب.
أى حرب تحتاج إلى شرعية أخلاقية تضفى على التضحيات معناها وعلى الدماء قداستها.
باليقين فإن خلط الأوراق لصالح الإرهاب والإرهابيين.
حتى تلك الجماعات، التى ترتكب أبشع الجرائم الإنسانية وأكثرها توحشا، تحتاج ــ أحيانا ــ إلى ذرائع أخلاقية لتبرير عملياتها.
أرجو ألا ننسى أن الذين اغتالوا الرئيس الأسبق«أنور السادات» سوغوا إقدامهم على مثل هذا العمل بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» وما ترتب عليها من نتائج ــ كما قالوا فى التحقيقات والمحاكمات.
لم تكن تلك هى الحقيقة، فقد كانوا يكفرون المجتمع كله ويعملون على تقويض الدولة لبناء أخرى وفق ما يعتقدونه من أفكار وعقائد شاردة.
هل هناك أى حكمة فى ضرب ثقة المجتمع فى أسباب «الطوارئ»؟
لا يمكن الكلام بجدية عن بناء استراتيجية جديدة كفؤة وقادرة على حسم الحرب مع الإرهاب بمثل تلك التصرفات السلبية والتصريحات المتفلتة.
التفلت بذاته مؤشر على هشاشة الوضع العام، وهو ما لا تحتمله مصر ولا تستحقه.
الضيق بالحريات العامة يقوض أى قدرة على صناعة التوافقات الضرورية، أن يحتمل الناس باقتناع ويضحون عن رضا.
وذلك يصب بدوره فى طاحونة الإرهاب الذى يتطور نوعيا ويتمركز فى الداخل المصرى على نحو منذر، فلم يعهد المصريون الأعمال الانتحارية.
ما شخصية الانتحارى؟.. ومن أين يأتى؟
هناك إجابات عديدة لكنها لا تستوفى الصورة الكاملة.
هشاشة الوضع السياسى العام أحد الممرات التى يعبرون خلالها إلى حيث يقتلون ويروعون.
التفلتات التى تحرض على الحريات العامة وتنال من قيم العدالة على نحو لا يليق بأى دولة تحترم نفسها تحريض صريح على الإرهاب باسم الحرب عليه.
ثم إن الثغرات الاجتماعية، وهذه أخطر وأفدح، توفر إحدى ممرات العنف والإرهاب بضغط اليأس من الحياة نفسها، كأن قتل الأبرياء والضحايا جسر مرور من الأزمة إلى الانعتاق حسب وعود وتفسيرات ضالة للدين الحنيف.
الممرات الفكرية لعبور الانتحاريين الأكثر تأثيرا وتشويشا فى الوقت نفسه.
إذا لم يكن هناك التزام جدى بقواعد الدولة الدستورية، التى تفصل بين الدينى المقدس والسياسى المتغير وتؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة، فإنه لا الإصلاح السياسى ممكن ولا العدل الاجتماعى متاح ولا تجديد الخطاب الدينى وارد ولا أمل فى كسب أى حرب مع الإرهاب.
خلف الأبواب المغلقة يتمركز الانتحاريون قبل أن يداهموا مجتمعهم بأصوات التفجيرات وأشلاء الضحايا.
من أين يأتى الانتحاريون؟
ــ من انكشاف المجتمع وهزال الأداء العام والاستهانة بالدستور والتحرش به والتحريض عليه.
من بين الممرات الماثلة الوضع المشتعل فى الإقليم وسيناريوهات ما بعد الحرب على «داعش».
وقد بدأت تتعالى مخاوف أن تشهد مصر ظاهرة «العائدون من سوريا»، مثلما شهدت فى تسعينيات القرن الماضى ظاهرة «العائدون من أفغانستان».
إذا لم يكن المجتمع محصنا ومتماسكا ولديه أمل فى مستقبله فإن الأمن وحده ليس بوسعه مواجهة تلك الظاهرة.
فى تسويغ فرض «الطوارئ» تردد رسميا أن هناك دولا إقليمية تمول وتسلح جماعات العنف والإرهاب دون تقديم أية أدلة، أو اتخاذ أى مواقف.
الإبهام لا يصلح للإقناع العام، أو بناء أى سياسات على قدر من الفاعلية.
ومن بين الممرات التى يأتى منها هؤلاء الانتحاريون سيناء نفسها.
أحد تفسيرات إعادة تمركزهم فى الداخل المصرى محاولة الإفلات من تضييق الخناق عليهم فى سيناء.
هذا تفسير محتمل، وعليه شواهد، لكن الأيام المقبلة وحدها سوف تثبت مدى دقته.
هكذا تتعدد الممرات الخطرة التى يأتى عبرها الانتحاريون، والبيئة العامة مفتاح الموقف كله فى الحرب الضارية مع الإرهاب.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved