كسر معضلة الأمن الحدودى فى شمال إفريقيا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 12 أبريل 2018 - 10:17 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة صدى كارنيجى مقالا للكاتب «جاك روسيلييه» ــ أستاذ العلاقات الدولية فى الجامعة العسكرية الأمريكية ــ حول قضية الأمن الحدودى بين دول المغرب العربى. وأنه من الضرورى الجمع بين الجهود الأمنية العابرة للحدود عند المستويَين الإقليمى والمحلى، وبين استراتيجية عملية للتنمية الاقتصادية تُقدّم موارد اقتصادية بديلة عن التهريب والاتجار بالبشر، قد يساهم فى بسط الاستقرار فى هذه المناطق.

بداية يذكر الكاتب أن المشاحنات التى تتكرّر بين الرباط والجزائر حول الأمن الحدودى غير المناسب، بما فى ذلك الجهود غير الفاعلة لمكافحة الإرهاب والمخدرات، تشكّل مرة أخرى مؤشرا عن أن المنافسة بين البلدَين على السيطرة تعرقل إمكانية التعاون الإقليمى. رسميا، يحول الخلاف المرير على سيادة الصحراء الغربية دون توصّل الدولتَين إلى اتفاق حول الشئون الإقليمية الأخرى مثل الأمن الحدودى. يحضّ المغرب الجزائر على وضع الخلاف جانبا من أجل العمل بفاعلية أكبر على مسائل ملحّة أخرى فى شمال إفريقيا، فى حين أنه ليست لدى الجزائر أى محفزات لفصل الأمن الحدودى عن التوصل إلى تسوية نهائية حول وضع الصحراء الغربية ما دامت قادرة على استخدام الأمن الحدودى وسيلة للضغط على المغرب فى موضوع الصحراء الغربية.

بيد أن المغرب والجزائر، وكذلك تونس، تواجه جميعها المعضلة نفسها عند حدودها. لقد تزامنت الزيادة فى التهريب عبر الحدود، خلال العقد المنصرم، مع ظهور عدد كبير من الأفرقاء الجدد الذين يستخدمون أنماط التهريب القديمة. وهذا يطرح تحدّيا على الحكومات والأجهزة الأمنية على السواء – ضمن قدرتها على العمل فعليا فى هذه المناطق – بطريقة أدّت إلى تجريد الحدود من صفة الحماية وتحويلها إلى تهديدات محتملة للأمن القومى. طبيعة التعاون الأمنى غير المنتظم والذى يعانى من شح الموارد فى دول المغرب العربى، ويرزح تحت وطأة الخلاف السياسى المغربى ــ الجزائرى، والحكومات الفاشلة أو الضعيفة فى ليبيا وتونس، تتجلّى بشكل خاص فى هشاشة المناطق الحدودية الفاضحة إزاء الجريمة العابرة للأوطان، والشبكات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية.

***

ويضيف الكاتب أنه فى حين أن الحدود الممتدّة على طول 2400 كم (1500 ميل) بين الجزائر والمغرب وتونس وليبيا قد رُسِّمت بوضوح، فهى لا تُستخدَم لتعيين بداية سيادة الدولة أو نهايتها بقدر ما تُستعمَل كمناطق عازلة، أى أراضٍ قائمة بحد ذاتها تربط بين مناطق متّصلة جغرافيا. ليست لهذه الحدود أهمية اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية كبيرة بحد ذاتها، بل تُستخدَم كقنوات للتفاوض على الهويات العابرة للأوطان، وبناء اعتماد اقتصادى متبادل – بما فى ذلك عن طريق الهجرة وتهريب البضائع – وتسهيل حركة المجموعات المسلّحة، التى تنظر إلى هذه المناطق الحدودية كأرض خصبة طبيعية للتشدّد الأيديولوجى. خلافا للحدود فى غالبية دول القارة الإفريقية، الحدود بين المناطق الشمالية ذات الكثافة السكانية الأكبر فى دول المغرب العربى، قديمة وراسخة: لم تفرضها أوروبا الكولونيالية، كما أنها لا تعكس انقسامات جغرافية أو إثنية ــ ثقافية قوية. على النقيض، الحدود الخارجية للمغرب العربى فى الجنوب موروثة إلى حد كبير من الإدارة الاستعمارية الفرنسية، لا سيما فى الجزائر. فى حين أن حدود المغرب مع الصحراء تُحدّدها فى شكل أساسى المستعمرة الإسبانية السابقة للصحراء الغربية، يدين الجزائر بالجزء الخاضع لسيطرته فى الصحراء إلى المخطط والمصالح الاستعمارية الفرنسية فى المنطقة. هذه الحدود المفروضة قسرا هى أقل منطقية فى عدد كبير من الجوانب، ما يزيد من عوامل الهشاشة الأمنية فى المغرب العربى.

ولقد أدّت طبيعة الحدود الخارجية القابلة للاختراق فى المغرب العربى، وارتباط البلدان التاريخى بالطرق التجارية فى الصحراء والساحل، إلى زيادة تعقيدات المسائل الأمنية عند الأطراف الهشّة فى المنطقة. فى الجزائر، تسبّب غياب الفاعلية فى ضبط الحدود مع ليبيا وتونس (حيث سُجِّلت تحسينات لافتة فى العمليات فى الأعوام الماضية)، على امتداد عقود، بتفشّى شركات التهريب، وأفضى إلى ازدهار الاقتصاد غير النظامى الذى يساعد على نشر الاستقرار فى هذه المناطق المضطربة. كذلك شهد الفراغ النسبى فى السلطة على طول حدود المغرب العربى، لا سيما فى مالى وليبيا، ظهور الهجرة غير الشرعية وتجارة الأسلحة والمخدرات، ما يؤدّى إلى تغذية الشبكات الإرهابية ــ وقد تدهور الوضع سريعا غداة الثورة التونسية وانهيار الدولة الليبية فى العام 2011.

وعلى الرغم من أن كلا من المغرب والجزائر يعمل على حدة على تحسين إمكاناته فى مجال ضبط الحدود وزيادة التمويل لهذه العمليات، إلا أن الزيادة فى حجم التهريب والنزوح عند الحدود المغربية ــ الجزائرية ووتيرتهما تتسبب أيضا بارتفاع خطر الإرهاب العابر للأوطان. لقد ساهمت الجهود المتزايدة التى تبذلها الجزائر من أجل مكافحة الإرهاب، فى كبح التسلل إلى المغرب عبر الحدود وخفضه إلى حدّه الأدنى، ويواجه المغرب تهديدا أكبر بكثير جرّاء عودة المقاتلين المتمرسين من سورية وليبيا. إلا أنه ليس بمقدور الرباط والجزائر أن تستمرا فى التمنّع عن التعاون فى مجال الأمن الحدودى فى المدى الطويل. فالخطر المتدنّى الذى تمثّله الحدود يضمن، فى الحد الأدنى، أن «مسألة الحدود» الأزلية ستبقى ورقة سياسية تستطيع الجزائر أن تربطها بتسوية أوسع لقضية الصحراء الغربية.

***

إلى جانب غياب التنسيق لدرء هذه التهديدات العابرة للأوطان، تفتقر بلدان المغرب العربى إلى سياسة لمعالجة المشكلات المشتركة للمجتمعات المحلية المفقَرة، والمهمَلة سياسيا، والتى يسهل دفعها نحو التشدد فى المناطق الحدودية المشتركة ــ لا سيما فى جنوب شرق المغرب، وجنوب شرق الجزائر، وغرب تونس. السبيل الأفضل لمعالجة الأسباب الجذرية للمظالم المتنوّعة التى تعانى منها هذه المناطق هو اعتماد مقاربة محلية عابرة للحدود ومتعددة الجوانب. فالاكتفاء فقط بالجهود الهادفة إلى ضبط الأمن عند الحدود يزيد من حدة الاضطرابات السياسية، أو حتى يزيد من جاذبية الأيديولوجيات المتطرفة، لأن التشدد فى قمع التهريب يتسبب بتعطيل الخيارات المتاحة أمام السكان المحليين لكسب معيشتهم. على سبيل المثال، تضاعف عدد السكان فى مدينة تمنراست جنوب الجزائر ــ وهى نقطة وصل تجارية استراتيجية بين ليبيا والجزائر ومالى والنيجر ـــ ثلاث مرات فى الأعوام العشرة الماضية، لا سيما بسبب التجارة غير الشرعية، التى يصعب استبدالها بأنشطة اقتصادية قانونية مربِحة بالدرجة نفسها. يمكن أن تُحقق التجارة غير الشرعية للبنزين الجزائرى الرخيص عبر الحدود التونسية، متوسط أرباح يتراوح من 120 إلى 160 دولارا فى اليوم لمجموعة واحدة من المهرّبين، بالمقارنة مع 6 إلى 9 دولارات فى اليوم للباعة القانونيين فى شوارع تونس.

يذكّرنا ظهور هذا الاقتصاد فى المناطق الحدودية، بأنه خلافا لأوروبا ــ حيث نمت الدول المركزية وراحت تستخرج الثروات والنفوذ من دول الأطراف ــ بدأ بناء الدولة فى شمال إفريقيا مع تأسيس مدن عند الطرق التجارية العابرة للصحراء، والتى استخدمتها مراكز النفوذ المحلية لاحقا كمنصّات انطلقت منها لفرض حكم السلالة المركزى. وهكذا فإن الحدود فى المغرب العربى هى فضاءات اقتصادية متماسكة، مع هويات مشتركة مُلقاة وسط أجواء خلافية على الدوام، وليست الحدود أطرافا نائية وعصيّة على الحكم عند هامش الأراضى الوطنية. على الرغم من تحدّيات التنمية البشرية، تُعتبَر المناطق الجنوبية فى الجزائر والمغرب استراتيجية بقدر «المركز». على سبيل المثال، يضم جنوب الجزائر، الذى يشكّل 80 فى المائة من مساحة البلاد ويقطنه 9 فى المائة من السكان، الجزء الأكبر من قطاع النفط والغاز المربح فى البلاد، الذى يؤمّن 35 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى ونحو 75 فى المائة من إيرادات الدولة.

***
ختاما، يذكر الكاتب أن الإبقاء على الوضع القائم فى الأراضى الحدودية المعقّدة فى المغرب العربى يمكن أن يخرج بسهولة عن السيطرة. غير أن الجمع بين الجهود الأمنية العابرة للحدود عند المستويَين الإقليمى والمحلى، وبين استراتيجية عملية للتنمية الاقتصادية تُقدّم موارد اقتصادية بديلة عن التهريب والاتجار بالبشر، قد يساهم فى بسط الاستقرار فى هذه المناطق. وبإمكان المحافظات الواقعة عند الحدود المغربية ــ الجزائرية أو الجزائرية ــ التونسية، مثلا، تطبيق استراتيجية مشتركة للتنمية والأمن فى المناطق الحدودية على المستوى المحلى. من شأن هذا النموذج ذى الطابع المحلى، فى حال حصوله على دعم مناسب من الحكومات المركزية، أن يُتيح زيادة التعاون وتعزيز الأمن من دون أن تُضطر الدول إلى تغيير مواقفها حول ما إذا كان يجب ربط المسائل الحدودية بالقضايا السياسية مثل وضع الصحراء الغربية.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved