فيروس «كورونا» والحاجة لإعادة تعريف العولمة

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الأحد 12 أبريل 2020 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

لا يعتبر مفهوم «العولمة»، كما يشار له من قبل بعض الدوائر وفى العديد من الأدبيات على مدار العقود الثلاثة الماضية، مفهوما جديدا فى النظام الدولى، ولم تأت «العولمة» للمرة الأولى للبشرية مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة السوفيتية، ولا فى ظل ما روج له البعض عند تلك النقطة التاريخية، بدون أى أساس علمى، مما أسماه هؤلاء بـ «نهاية التاريخ»، وهو طرح أثبتت العقود الثلاثة التالية على ظهوره بوضوح خطأه الفادح وما بنى عليه من سوء تقدير. بل إن حالة «العولمة» تضرب بجذورها فى بواكير التاريخ الإنسانى، وكانت عادة ما تتنوع ما بين حالة قوة دولية واحدة مهيمنة أو قوتين متنافستين على الهيمنة، أو حتى أحيانا فى ظل حالة للعالم تتسم بتعدد الأقطاب.
إلا أنه من منظور الرؤية التاريخية المتصلة بالواقع الراهن وذات الطابع المقارن، فإن كل طور من هذه الأطوار للعولمة، سواء الأطوار المتلاحقة الماضية أو الطور الراهن، له خصائصه وخصوصياته فى تركيبة ميزان القوى، والتشكيل الهرمى لمدى قوة البلدان والتحالفات والكتل، والهيكل الإطارى العام الذى يحكم القانون والأخلاق والسياسة والاقتصاد والمجتمعات والثقافة، وطبيعة العلاقات البينية فيما بين مختلف الأطراف الفاعلة وتلك ذات المصلحة من جهة، والصفات الأساسية التى يتسم بها وتميزه، سواء بالسلب أو بالإيجاب، عن الأطوار الأخرى من جهة أخرى، كما أنه عادة ما يعكس كل طور من هذه الأطوار منظومة قيمية تعكس بدرجة كبيرة القناعات العقائدية والأيديولوجية والفكرية للأطراف الغالبة على ساحة النظام الدولى فى زمن هذا الطور أو ذاك من أطوار العولمة.
وقد وجهت الكارثة الخاصة بفيروس «كورونا»، منذ ظهورها ومع اتساعها وانتشار نطاقها وتزايد آثارها وتبدى انعكاساتها وتضاعف أعداد ضحاياها ما بين وفيات وإصابات، ضربة قوية للعولمة فى سياقها الراهن، وحتى اللحظة لا نعرف مدى هذه الضربة وعما إذا كانت ضربة قاضية من عدمه، وقد تعددت أوجه وتنوعت تجليات تلك الكارثة على جوانب مختلفة للعولمة فى طورها الراهن، كما سنحاول أن نلقى الضوء على أمثلة من ذلك خلال هذا المقال. وجاء جزء هام، بل ربما الجزء الأكبر، من هذه الضربات للطور الراهن للعولمة ليس من كارثة الفيروس فى حد ذاتها بل من ردود الأفعال عليها ومن استراتيجيات التعامل مع تلك الكارثة ومواجهتها والسعى للتغلب عليها.
فقد أدى تحدى فيروس «كورونا» والحاجة لمواجهته من قبل الحكومات الوطنية، فى إطار وعيها، ولو متأخرا فى العديد من حالات دول العالم، بمسئولياتها فى الحفاظ على وجود وحياة مواطنيها والمقيمين على أراضيها والدفاع عن سلامتهم وضمان رعاية صحتهم البدنية والنفسية، إلى فرض إجراءات تقييدية على المستوى الوطنى، وأحيانا الإقليمى أو شبه الإقليمى، بغرض تحقيق هذه الأهداف وتنفيذ تلك المسئوليات، واندرج ضمن تلك الإجراءات فى الكثير من الحالات إغلاق الحدود مع البلدان المجاورة، كما تضمن إغلاق المطارات والمنافذ مع جميع بلدان العالم فى حالات أخرى.
وفى نفس السياق، تم فرض إجراءات تقييدية على حركة الأشخاص الطبيعيين للدخول إليها من جانب غير المواطنين أو المقيمين، بل تجاوز الأمر ذلك إلى فرض عدد من القيود على حركة البضائع، أو بعضها، وذلك من خلال تكثيف إجراءات رقابية وتفتيشية لضمان عدم ورود عبر الحدود ما قد يزيد من مخاطر تعرض أعداد متزايدة من المواطنين والمقيمين للإصابة بالمرض اللعين الناتج عن فيروس «كورونا» المستجد. وأدت هذه الإجراءات بالضرورة إلى تباطؤ حركة التجارة الدولية، إحدى الركائز الرئيسية للعولمة فى طورها الراهن، والتى تبلورت فى أعقاب نجاح جولة أوروجواى للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف وما نتج عنها من تأسيس المنظمة العالمية للتجارة فى عقد التسعينيات من القرن العشرين، وإن دفعت تلك الحكومات لتبرير تلك الإجراءات بالاستثناءات الواردة فى إطار المنظمة العالمية للتجارة، وفى المقدمة منها الحفاظ على الصحة العامة للمواطنين والمقيمين أو على ظروف الطوارئ أو على اعتبارات الظروف القهرية أو جميع هذه الاعتبارات معا.
وتخطت التداعيات السلبية لكارثة فيروس «كورونا» المستجد على العولمة القيود على التجارة الدولية إلى مدى أبعد، ونعنى هنا وجود تغيرات متزايدة وجوهرية ونوعية فى الإدراك والوعى لدى عدد كبير من الحكومات والبلدان عبر العالم، بما فى ذلك البلدان الغربية، التى كان لها الريادة تقليديا فى الدعوة والحث، بل وممارسة الضغوط، من أجل الترويج للعولمة فى ثوبها الحالى، بما فى ذلك تعظيم مبادئ وممارسات حرية التجارة والتخصص الدولى وتقسيم العمل الدولى والاعتماد من جانب كل دولة على الميزة النسبية فى إطار المنافسة الدولية، والدعوة بالمقابل إلى الابتعاد عن الحديث عن الاعتماد على الذات وغيره من المفاهيم، سواء تلك القائمة على أساس الوطنية الاقتصادية أو تلك المنبثقة عن تفسير أو آخر لأفكار وأيديولوجيات ذات توجهات تقدمية.
فقد أفرزت الأزمة الأخيرة مشاعر الخوف لدى الكثير من الحكومات، بما فيها فى بلدان صناعية غربية ورأسمالية متقدمة، مما قد يأتى به المستقبل المجهول فى ظل اعتماد الدول على ورود منتجات وسلع لها على هيئة مواد مستوردة تأتى من خارج الحدود ولا سيطرة لها على إنتاجها، ودفع ذلك تلك الحكومات، بما فى ذلك على مستوى الوزراء، بل وحتى على صعيد القادة والزعماء، إلى إطلاق التصريحات عن ضرورة تعديل الهياكل الإنتاجية الوطنية داخلها لتلبية الاحتياجات الضرورية والأساسية لشعوبها، بما فى ذلك فى المجال الطبى وفى قطاع الرعاية الصحية، وصولا إلى ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتى فى الإنتاج فى القطاعات الحيوية، وهى جميعها مقولات لا تختلف كثيرا من حيث المضمون عن دعوات «الاعتماد على الذات»، ومبعثها الرئيسى الخوف من المستقبل المجهول.
وارتبط بما تقدم حديث من جانب نفس تلك الحكومات وذات هؤلاء القادة عن أهمية تقديم الدعم للمؤسسات الاقتصادية لمساعدتها للنهوض من جديد، وفكرة الدعم الحكومى أيضا تناقض إحدى ركائز العولمة فى طورها الراهن، وربما للدفع بشكل غير مباشر من أجل عدم سقوط تلك المؤسسات أو إفلاسها وضمان تنافسية أسعار منتجاتها فى الأسواق فى المستقبل، ما بعد انقشاع الضباب الكثيف المرتبط بالأزمة الراهنة، خاصة مع الأخذ فى الاعتبار التوقعات بوجود ارتفاعات غير مسبوقة فى معدلات التضخم العالمى، وبشكل خاص فى الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة، عقب تحقيق النصر على فيروس «كورونا»، وكذلك لضمان، من جهة أخرى، عدم ارتفاع معدلات البطالة التى تزايدت بشكل ملفت خلال شهر مارس 2020 عبر العالم، سواء المندرجة فى سوق العمل الرسمى أو فى القطاعات غير الرسمية للاقتصاد.
وهذه الأمثلة التى سقناها فيما تقدم، وغيرها، تشكل اعتبارات جادة يتعين التفكير والتأمل فيها مليا، لأنه من الوارد أن تمهد، بل غالبا ما ستطرح، على الأرض معطيات ومسلمات ومحددات ومعايير لطور جديد من أطوار العولمة، قد يكون من الصعب أن نتنبأ حاليا بهيكله وتركيبته وتشكيله وبنيته، ناهيكم عن إمكانية التنبؤ الآن بخصائصه وخصوصياته وصفاته الأساسية، ولكن المأمول من جانب الكثير من البشر عبر العالم أن يكون الطور القادم للعولمة المنتظرة أكثر عدلا وأكثر إنسانية وأكثر إنصافا وأكثر حرية وأكثر عالمية وأكثر أمنا وسلاما وسلامةً لبنى الإنسان جميعا وللأجيال الحالية والقادمة من البشر على حد سواء، وذلك مقارنةً بالطور الموجود حاليا، والذى تعيش فيه البشرية وتعايشه على مدار العقود الثلاثة المنقضية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved