عن المحشى والكشرى وإعادة الاعتبار للوجبة المصرية

ريم سعد
ريم سعد

آخر تحديث: الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:44 م بتوقيت القاهرة

 المحشى والكشرى.. تلك الأكلات الشهية التى استقرت كركن أساسى من المطبخ المصرى رغم أننا اقتبسناها من ثقافات أخرى فى فترة حديثة نسبيا من تاريخنا.

هى وجبات شبه كاملة ومغذية وطيبة الطعم وهى أيضا وجبات اجتماعية لها بهجة مميزة، كما أنها عابرة للطبقات يقبل عليها الغنى والفقير على حد سواء وإن تفاوتت المكونات أو طريقة التقديم.

لماذا إذن تتمتع هاتان الأكلتان بسمعة طيبة داخل منازلنا بينما تنقلب الآية تماما ليصبح استهلاكها فى الفضاء العام شيئا مشينا؟.. كيف ولماذا أصبح أكل الكشرى والمحشى فى الأماكن العامة دليلا لا جدال فيه على السوقية وانحطاط الذوق العام؟..

وكيف أصبحت هاتان الكلمتان تختزلان أسباب ومظاهر التردى وتستدعيان صورة قطعان من الهمج يعيثون فسادا فى أرجاء الوطن؟

فمنذ عدة سنوات أصدر رئيس سابق لجامعة القاهرة قرارا بمنع بيع الكشرى داخل حرم الجامعة حفاظا على هيبتها، كما صرح الدكتور زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مؤخرا بأن المناطق الأثرية سيتم إغلاقها خلال الأعياد حتى لا نرى حلل المحشى، وفى الرثاء السنوى لحال معرض الكتاب كثيرا ما نقرأ تنويعات على ذلك السؤال المفترض فيه البلاغة والإفحام: هل وصل الأمر بمعرض الكتاب أن صار مجرد مكان لأكل الكشرى؟..

مع أن أى زائر لمعرض الكتاب فى السنوات الأخيرة ستحفى قدماه ليجد مكانا يبيع الكشرى ولن يجد سوى المدعو «فود كورت» وبه أردأ أنواع الأطعمة المسماة بالعالمية وأغلاها سعرا.

وبالمثل فقد اختزلت مشكلات المتنزهات والشواطئ العامة (أو القليل المتبقى منها) فى مشهد الأسر التى تجلب معها «حلل المحشى».

مع أنه فى الحقيقة لو فكرنا قليلا سنجد أنها بالفعل الوجبة الأنسب للنزهة الخلوية فهى قليلة التكلفة وذات قيمة غذائية عالية وفوق هذا وذاك فهى أكلة «نظيفة» لا ينتج عنها مخلفات وهى بالتالى مناسبة لحالة الغالبية العظمى من أماكننا العامة الخالية من سلال المهملات.

ويبدو فى المقابل أن الأكلات الراقية المرضى عنها والمسموح بتناولها علنا هى أشياء مثل البيتزا أو الهامبورجر وغيرها من أصناف الوجبات السريعة وهى على النقيض تماما من الوجبات التقليدية، فهى باهظة السعر وقليلة القيمة الغذائية وتسبب البدانة المفرطة وتنتج عنها كميات هائلة من المخلفات بسبب الطرق المتبعة فى تعبئتها وتغليفها.

أنا لا أدعو فى دفاعى عن المحشى والكشرى للانغلاق، ولا تدفعنى أسباب قومية للاحتفاء بكل ما هو مصرى لمجرد كونه كذلك.

وفيما يخص موضوعنا هذا أدعوكم للتعرف على «منظمة الأكل المتمهل»، وهى منظمة نشأت فى إيطاليا فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى ونمت سريعا واتسعت عضويتها وتشعبت أنشطتها لتصبح أقرب إلى حركة اجتماعية عالمية. وهى تهتم أساسا بمناهضة ثقافة الوجبات السريعة لصالح الأطعمة التقليدية وتشمل أهدافها العمل على الحفاظ على التنوع الحيوى من خلال تشجيع مزارعى المحاصيل التقليدية المحلية وتشجيع الزراعة العضوية وتوثيق طرق الطهى التقليدية وتشجيعها والتعامل مع الأطعمة والوجبات التقليدية والمحلية للبلدان والثقافات المختلفة وطرق إعدادها واستهلاكها كتراث ثمين يتوجب الحفاظ عليه وإحياؤه.

فلماذا إذن تستهجن نخبتنا الاجتماعية، بل والثقافية على حد سواء، استهلاك وجباتنا التقليدية علنا؟.. من الواضح أولا أن المقصود ليس الأطعمة فى حد ذاتها وإنما هو وسيط أو مجاز يتم من خلاله التعبير عن تصور معين عن طبقة معينة وعن رأى فى أسلوب حياتها، فيرتبط الكشرى والمحشى بأسلوب حياة الدهماء والوجبات السريعة ذات الأسماء الأجنبية بأناس راقين ذوى أسلوب حياة متميز. قد يرجع ذلك إلى أن نخبتنا تستقى معايير الرقى من كل ما هو غربى ــ أو بالأحرى ما تعتقد أنه غربى.

فالحقيقة أن الوجبات السريعة ذات الأسماء الأجنبية قد يكون معظمها قد نشأ فعلا فى الغرب وإنما ما يصلنا منها من خلال سلاسل مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة فى كل بقاع العالم قد تم تنميطها وتحويرها وفق شروط الإنتاج والترويج حتى صارت أكلات بلا وطن منقطعة الصلة بأصولها. وبالتالى فإننا عندما نقوم بتحبيذها والانتصار لها لا نكون قد وصلنا إلى الرقى الغربى المنشود وإنما نكون قد ابتلعنا طعم العولمة الاقتصادية والثقافية فى صورتها الأكثر فجاجة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved