عن مصر فى لبنان وانتخاباته .. محاولة لرسم خريطة الديمقراطية الطوائفية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 12 مايو 2009 - 7:49 م بتوقيت القاهرة

 (1)

تزايدت اهتمامات القيادة السياسية فى مصر بالشئون اللبنانية خلال السنتين الماضيتين، فوجهت دعوات رسمية إلى بعض أقطاب اللعبة السياسية الداخلية، وكانت قريبة من فكرة اختيار قائد الجيش لرئاسة الجمهورية (وهو ما حصل فعلا، قبل عام).

كما أنها تتابع وبشكل يومى تقريبا مجريات «معارك» الانتخابات اللبنانية المقرر إجراؤها فى السابع من شهر يونيو المقبل.

ولعل الهدف المباشر مسح الانطباع الذى ساد فى لبنان عشية الحرب الإسرائيلية عليه (يوليو ــ 2006) بأن مصر اقتربت من فريق السلطة ( 14مارس) بأكثر مما يسمح حجمها ودورها كمرجعية عربية شاملة تتطلع إليها الدول العربية جميعا إذا ما احتدمت الخلافات الداخلية بين قواها السياسية لتلعب دور «الوسيط النزيه»، الساعى إلى توطيد الوفاق الوطنى، لاسيما أن مصر أكبر من أن تكون طرفا فى خصومة بين الإخوة.

ولقد وجهت القاهرة دعوات رسمية إلى عدد من القيادات السياسية فى لبنان، من رسميين كبار فى طليعتهم رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وسياسيين مختلفى التوجهات (بينهم سعد الحريرى، زعيم ائتلاف الأكثرية النيابية ــ ورئيس تيار المستقبل) وعمر كرامى، الرئيس الأسبق للحكومة، وسمير جعجع قائد التنظيم (المقاتل سابقا) «القوات اللبنانية».. إضافة إلى رئيس المجلس النيابى نبيه برى، فى زمن سابق. أما رئيس الحكومة فؤاد السنيورة فكان دائم التواصل مع القاهرة، فإن تعذرت الزيارة الرسمية جاء فى زيارة خاصة، أو استغل إجازة عائلية قصيرة ليلتقى بعض المسئولين إضافة إلى الاتصالات الهاتفية الدائمة مع الرئاسة ووزارة الخارجية ودوائر أخرى فى دست الحكم فى مصر.

اليوم، وعشية احتدام المنافسات فى المعركة الانتخابية، طرأ عنصر جديد قد يؤثر على موقف القاهرة الرسمية، هو ما يتصل بالموقف من «حزب الله» بعد كشف «الشبكة الأمنية» التى قيل إن عنصرا من هذا الحزب كان مكلفا بقيادتها فى مهمة يراها مقدسة هى إيصال المساعدات، بأنواعها، إلى شعب فلسطين تحت الحصار الإسرائيلى فى غزة هاشم، المفصولة والمعزولة والمطوقة بأسباب الموت الإسرائيلى من جهاتها كافة، منذ أقدمت إسرائيل على محاصرتها حتى الموت، ثم على دكها بحرا وبرا وجوا وبمختلف أنواع الصواريخ وقذائف الدبابات والمدفعية وقنابل الفوسفور الأبيض، على امتداد اثنين وعشرين يوما من القتل المنظم.
هنا محاولة لقراءة الخريطة الانتخابية فى لبنان بملابسات التحالف والافتراق بين القوى السياسية فيه، والتى تدرس القاهرة، فى تقديرنا، موقعها منها.

(2)

لأن لبنان هو «مركز الكون»، فى عيون أبنائه، وربما فى عيون العديد من الدول، كبراها وصغراها، البعيدة منها خلف المحيطات، والقريبة منها قرب العين من الحاجب، فإن الانتخابات النيابية فيه، تكاد تكون بالنسبة لأهله كما بالنسبة لتلك الدول، أخطر حدث عالمى فى هذا القرن!

من هنا يأتى طغيان الاهتمام بهذا الحدث اللبنانى الجلل على كل ما عداه من تطورات، بما فيها الزيارتان التاريخيتان لكل من بابا الفاتيكان بندكت السادس عشر لكل من الأردن وفلسطين (أو ما تبقى منها) وللكيان الإسرائيلى (الذى لا تعرف له حدود نهائية)، ومن بعده الرئيس الأمريكى باراك أوباما، الذى سيطل على عالمنا العربى من عاصمته القاهرة..

وبمعزل عن الأهمية الاستثنائية لهاتين الزيارتين التاريخيتين، فإن مواعيدهما تثير من الأشجان أكثر مما تبعث على الفرح... إذ إن كلا منهما تؤكد انعدام قيمة دولنا العربية، بل وشعوبنا ذاتها: فالبابا يجيئنا فى ذكرى «شطب» فلسطين من الخريطة لتسهيل إقامة «دولة اليهود»ــ إسرائيل ــ فوق أرضها وعلى حساب شعبها وحقوقه وتاريخه فيها..

أما الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما الذى أثار انتخابه موجة من التفاؤل سببها البديهى مقارنته بسلفه التكساسى سيئ الذكر، فإنه يأتى إلى مصر فى موعد يتضمن شيئا من الاستفزاز (غير المقصود؟!)، إذ يتصادف وصوله مع الذكرى الثانية والأربعين للحرب الإسرائيلية على مصر ومعها سوريا (والأردن وشعب فلسطين وسائر العرب) فى 5 يونيه 1967، حيث مكنت الغفلة إسرائيل من مفاجأة العرب وإلحاق الهزيمة بمجموع جيوشهم فى حرب خاطفة ضاع بعدها مصيرهم من أيديهم، ومازالوا يدورون لاستعادته توسلا من أيدى المتحكمين فيه، نتيجة عجزهم عن القرار. ما علينا، لنعد إلى موضوعنا الأخطر وهو الانتخابات الكونية فى لبنان..

وهى كونية لأن لكل دولة فى العالم، الأكبر فالأصغر، رأيا فيها وموقفا منها، بل لأن للعديد من الدول مرشحين فيها، بل «لوائح» كاملة... وإذا استخدمنا عبارات القوى المتصارعة لرأينا فيها مواجهة بين «معسكر الاستقلال والحرية والديمقراطية» الغربى التوجه، وإن اعتمر بعض أطرافه الكوفية والعقال، ورطن بلغة القرآن الكريم، و«معسكر الشر» ــ بالتعبير الأمريكى ــ الذى يضم سوريا وإيران بشعارات الثورة الإسلامية و«حزب الله» والقوى الوطنية المتحالفة معه.

(3)

ذلك أن الشرخ العميق الذى أحدثته فى الداخل اللبنانى جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريرى، قبل أربع سنوات إلا قليلا، قد استولد حالة احتدام سياسى خطير، لأن «اللعبة السياسية» وجدت فى الجريمة مجالا رحبا للاستثمار.. ولم يتورع أطرافها المحليون كما الأجانب، عن تحريك المواجع باستثارة المشاعر الطائفية والمذهبية فى هذا البلد الصغير والدقيق بتوازناته والذى اتسع لظروف مختلفة لثمانى عشرة طائفة مرشحة للتزايد... أوليس هو بلد الهاربين من الاضطهاد الدينى أو العرقى أو الطائفى فى أوطانهم؟!

ثم تفجر الاحتدام السياسى خلافا عميقا كاد يبلغ حافة الحرب الأهلية، وبين المسلمين سنة وشيعة على وجه التحديد.

منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريرى لم يعد لبنان هو ذلك المصيف والمشتى، المكتبة والمنتدى، الكتاب والصحيفة، المقهى والملهى وملتقى التقاطعات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومجمع التناقضات والتحالفات والمصالح ومركز التصنت والاستخبار المفتوح لكل الدنيا وعلى كل الدنيا.

كانت جريمة الاغتيال زلزالا عنيفا خلخل الثوابت وقواعد التوازن فى الوطن الصغير، خصوصا أن بين أولى تداعياته الخطيرة كان خروج الإدارة السورية، برجالها وعسكرها وضبطها للإيقاع وفق برامج كانت «تواطأت» عليها مع من أولتهم فى ظل سيطرتها مقاليد الحكم والنفوذ فى مختلف الميادين.

فقدت « الدولة» المركبة، كما الدومينو، على قوى بعضها قديم مجدد وبعضها الآخر مستحدث، «المركز» و «مصدر القرار» فيها، وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمام كل قادر على اجتذاب حصة من كعكة لبنان الشهية، حيث تتقاطع مصالح الدول والقوى والجماعات، سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

وفى ظل لوثة الدم تم إسقاط ما بات يسمى الآن «نظام الوصاية» القديم لتنشأ أنظمة وصاية جديدة، متعددة الهويات، مختلفة الأغراض، أما فى السياسة، ولأسباب تكتيكية فقد تم التحالف الرباعى بين كل من: «حزب الله» و«حركة أمل» وسعد الحريرى (نجل الرئيس رفيق الحريرى) وتياره الذى يعرف الآن باسم «تيار المستقبل» والحزب التقدمى الاشتراكى (وليد جنبلاط) وحليف الحليف حزب «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، الذى كان سعد الحريرى قد سعى لإخراجه من السجن بعفو خاص.

(4)

لكن هذا التحالف الانتخابى الذى استولد حكومة فؤاد السنيورة الأولى، لم يعمر طويلا، وتدخلت قوى دولية وعربية مؤثرة لفرطه مباشرة فى أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان فى يوليو 2006، والتى اتخذت من أسر بعض الجنود الإسرائيليين لمبادرتهم بأسرى لبنانيين وفلسطينيين ذريعة لها.

ثم تفجر التحالف خلافا عميقا بعد السعى لإقرار مشروع المحكمة الدولية، قفزا من فوق رئيس الجمهورية والمجلس النيابى، وبموجب اتفاق (بروتوكول) خاص تدخلت الدول الكبرى لإقراره عبر الأمانة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الذى كان أصدر فى أعقاب جريمة الاغتيال قراره الرقم 1595 قرارا بأن يكون التحقيق فى هذه الجريمة «دوليا» وأنشأ لهذا الغرض لجنة تحقيق دولية رأسها فى البداية ضابط مخابرات ألمانى طاردته الاتهامات فى حيدته منذ اللحظة الأولى..

ولقد كان سهلا الانحدار بالخلاف السياسى إلى وهدة الشقاق الطائفى والمذهبى، فاتهام إيران وسوريا معا يصيب «حزب الله» مباشرة، ويسهل بعد ذلك إثارة ما يحفظه التاريخ من صراعات مذهبية تعود إلى فجر التاريخ الإسلامى وعصر الخلافة الراشدية والتى ماتزال تجر ذيولها، بما يسهل استثمارها اليوم.

تعدد الورثة بأكثر مما يمسح ضيق «الساحة» للتوافق، وكان طبيعيا أن تنفتح أبواب الصراع على النفوذ على مصاريعها، وأن تنشأ تحالفات غريبة، وأن يتلاقى خصوم فى مواجهة عدو لهم جميعا، أعاد الانقسام استيلاء الشعور بالغبن لدى المسيحيين الموارنة الذين رأوا فى اتفاق الطائف الذى أنهى ــ نظريا الحرب الأهلية سنة 1989، انتقاصا من دورهم، إذ هو أعاد توزيع السلطة منتزعا من رئيس الجمهورية الصلاحيات المطلقة التى كانت له منذ إنشاء الكيان السياسى (1920)، وتحديدا منذ جلاء الاحتلال الفرنسى وإعلان استقلال الدولة (1943)، ليحصرها فى مجلس الوزراء، مما أعطى لرئيس الحكومة (المسلم السنى، وبنسبة أقل للوزراء) صلاحيات واسعة، فى حين أتاح لرئيس المجلس النيابى (الشيعى) أن يكون السيد المطلق فى البرلمان.

وفى ظل هذا «الشعور بالغبن»، وانقسام المسلمين سنة وشيعة إلى حد التصادم، أمكن إعادة إحياء قانون انتخابى عام، مشهور بقانون الستين، يتلخص فى فرز طائفى شبه مطلق، بحيث تنتخب كل طائفة نوابها... وتحت شعار «تحرير» الأقلية المسيحية من استرهان الأكثريات الإسلامية، شيعية وسنية، لها.

(5)

وهكذا أسقطت الانتخابات من قبل إجرائها بالضربة الطائفية القاضية، بعدما أدت غرضها الديمقراطى العظيم: شرخت لبنان إلى فيدراليات طوائفية منفصلة (نفسيا) متصلة عمليا لأسباب بحت معيشية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved