الازدحام الوهمى

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 12 مايو 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

ظللت أصاب حتى وقت قريب بالدهشة، كلما قضيت ساعات طويلة فى أحد الشوارع أتكهن بسبب ازدحامها الشديد، فإذا بها تنفرج فجأة عند نقطة ما، لتتدفق بعدها العربات بشكل طبيعى، ومع دهشتى لهذا التغيير غير المفهوم، كنت أدقق النظر من حولى فى كل الاتجاهات، فلا أجد أثرا لحادث اصطدام، ولا أرى عربة متعطلة أو ماسورة منفجرة تفيض منها المياه، لا مَطلَع لكوبرى ضيق أو مدخل لنفق مطموس الملامح، يمكنه أن يبرر الأمر ويدعم أحد افتراضاتى، لا شىء بالمرة، لا سبب واضح للتكدس ولا للانفراج، وفى كل مرة أتعرض فيها للموقف ذاته، أتساءل «لماذا؟» دون أن أحظى بإجابة، ويتعجب مَن يرافقنى مِن دهشتى التى لا لزوم ولا معنى لها.

 

●●●

 

أدركت منذ أيام قليلة أن السبب بالفعل غير موجود، وأن الحالة التى تحنقنى ليست بلغز على الإطلاق، بل يمكن شرحها فى ضوء ما يسمى بالفيزياء الاجتماعية، يقول مارك بوكانان فى كتابه «الذَرَّةُ الاجتماعية» أن أيا ممن تؤهلهم سنهم لقيادة السيارات، قد عانى ولاشك من تلك التجربة المزعجة: الزحف بالسيارة على طريق كان سريعا ثم ارتبكت حركة السير فيه، دون مبرر. خبراء المرور يعرفون تلك الحالة جيدا، ويطلقون عليها مصطلح «الازدحام الوهمى»، وتُفَسَّر بمنتهى البساطة، بأن استجاباتنا كسائقين لا يمكن أن تتجاوز سرعة الأحداث من حولنا، وهى فى أقصى الأحوال تساويها، فإذا حدث أى تكتل عارض للسيارات فى منطقة ما، أدى فورا إلى عملية إبطاء ذاتى، وانكمشت بالتالى المسافات الفاصلة بين كل سيارة وأخرى، لتسفر عن مزيد من التكتل ومن الإبطاء، وقد تؤدى تلك الدائرة المغلقة فى النهاية إلى التوقف التام، فى حين أنه لا وجود لعراقيل مادية أدت إلى الموقف برمته. يقولون إن مثل هذا النمط الحركى الموصوف، ينبعث من تلقاء نفسه، وأننا نحن سببه الوحيد، لا شىء غير عادى سوى وجودنا وتجمعنا العشوائى فى لحظة ما.

 

ربما تكون هناك انعكاسات وتطبيقات عملية كثيرة لهذه النظرية، وقد لا تتوقف عند حدود تفسير أعطال الحركة المرورية، ثمة «ازدحام وهمى» قد يحدث داخل أدمغتنا نفسها، تتجمع فى محيطنا أحداث كثيرة عارضة، قد لا تمثل فى حقيقة الأمر عوائق فعلية أمام عملية التفكير، لكن تكدسها السريع يقلل من قدرتنا على الإدراك والتحليل، ويعجزنا عن التجاوب معها، ويَصِمَ استجاباتنا تجاهها بالأناة والبطء وربما البلادة، ومن ثم يجعلها تتراكم وتتكدس أكثر وأكثر. ربما يصيبنا ازدحام الأفكار الوهمى بالشلل، فنشعر بالانشغال الشديد، بينما نحن فى حقيقة الأمر واقفون فى أماكننا، كما العربات الحبيسة، عاجزون عن إنجاز أى شىء. أسمع فى الآونة الأخيرة من صديقات وأصدقاء كثر عبارة: «مشغول لكنى لا أفعل شيئا»، وأدرك أننى أيضا مشغولة دون أن أفعل شيئا، وأن سببا مهما من أسباب هذا الانشغال «الوهمى» أيضا، هو المناخ العام المضغوط بفعاليات وتطورات متوالية، والمشحون بكم هائل من الزيف والتوتر.. حدث وراء حدث لا تفصلهما سوى دقائق قليلة، مشاهد ولقطات نغرق فيها دون أن نخرج بشىء حقيقى، سببا كان أو نتيجة.

 

●●●

 

ألمس مثلى مثل الكثيرين أيضا، حالة الساحة السياسية المرتبكة، وأشعر أنها رغم الحيوية الظاهرية التى تبدو عليها، بطيئة بطء السلحفاة، وقاصرة عن التقدم إلى الأمام ولو لخطوات قليلة، بل إن مساراتها تكاد أن تنغلق من كثرة العابرين، الذين يرغبون جميعا فى المرور بها خلال اللحظة ذاتها.

 

رغم ازدحامها الشديد، ورغم احتوائها على وجوه من مختلف المشارب والاتجاهات، لا تزال الساحة السياسية تعانى مِن غياب مَن هو قادر على ملء الإطار الفارغ، دون أن يحيط به فيض من المآخذ والتحفظات، ولا تزال الحركة الثورية تفتش عن قائد يأخذ على عاتقه مهمة استكمال المسيرة، فى الوقت الذى تكتظ الساحة فيه بأسماء لأحزاب وائتلافات واتحادات لا حصر لها، ولا يضع الناس أيديهم على حلم واحد قد تحقق، فى حين يزخر المشهد بلافتات وتصريحات لا هم لها سوى طرح الأمانى والأحلام وصياغتها فى شكل براق ثم تركها معلقة فى الهواء، تزدحم الساحة أيضا بشاشات وأضواء يتم تسليطها على وجوه تدعى البطولة، بينما لا تجد الجماهير البطل الذى أضناها البحث عنه واشتاقت للعثور عليه، تمتلئ رءوسنا كل صباح بالشعارات والمبادئ الأنيقة ، بينما نفتقر جميعا إلى وجود أشخاص يتمسكون بمواقفهم دون مساومة، ويدافعون عن مبادئهم ومعتقداتهم رافضين تقديم أية تنازلات، ويصمدون وسط الريح حتى النهاية. تزدحم الساحة وتزدحم لكنها تعانى من فقر فى الأشياء الحقيقية، تزدحم وفى قلبها خواء..  ازدحام وهمى لا نملك ترف التوقف أمامه، لكثرة ما نعانى من الانشغال.

 

يرى بوكانان أن السر وراء فهم ما يجرى حولنا يكمن ــ لا فى دراسة سلوك كل فرد على حدة ــ إنما فى دراسة الأنماط التى نبتكرها كجماعة، ونخلق منها أشكالا اجتماعية قوية ومؤثرة، ثم نتبعها فى حرص، أظن أن النمط السائد الذى يتم اتباعه على الساحة السياسية الآن، كثيرا ما يشبه فى آليات حركته، ذاك النمط الذى تتبعه السيارات المتصادمة، داخل الساحات الزلقة لدور الملاهى.. الفارق أن الأخيرة يقودها الأطفال للهو، بينما الأولى تقود مصير بلد بأكمله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved