التحول العسكرى فى الجزائر

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 12 مايو 2016 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

بعد تفكيك دائرة الاستعلام والأمن التى كانت تتمتع بالنفوذ سابقا، تبذل الحكومة الجزائرية جهودا لتُثبت سيطرتها على الجيش، وقد تجلى ذلك من خلال تكثيف الجيش عملياته لمكافحة الإرهاب فى مارس الماضى. يحاول الرئيس بوتفليقة وحلفاؤه، من خلال هذه العمليات، أن يثبتوا للنخب التى كانت على ارتباط بدائرة الاستعلام والأمن، أنهم يسيطرون بالكامل على القوى الأمنية، ويسعون أيضا إلى إعادة بناء ثقة الشعب بقدرة الجيش الجزائرى على الحفاظ على الأمن. علاوة على ذلك، توجه الحكومة الجزائرية رسالة إلى فرنسا وجيرانها فى الساحل والبلدان الأخرى المهتمة بالأمن الإقليمى، بأن الجزائر لا تزال اللاعب الرئيس. إلا أنه لا تزال هناك شكوك أساسية حول ما إذا كان الجيش الجزائرى قادرا على إدارة الشئون الأمنية الإقليمية بنفسه.
أقدم حلفاء بوتفليقة على حل دائرة الاستعلام والأمن فى يناير الماضى بموجب مرسوم رئاسى، بعد إقالة رئيسها، الجنرال محمد «توفيق» مدين، فى سبتمبر 2015. فقد أثارت الجهود التى بذلها توفيق للتقصى عن الفساد فى شركة سوناطراك الحكومية للمحروقات ومشتقاتها ــ وخصوصا رئيسها السابق الموالى لبوتفليقة، شكيب خليل ــ غضب المعسكر الرئاسى. والأهم من ذلك، حُمِل توفيق مسئولية الفشل فى حماية منشأة تيقنتورين للغاز فى عين أميناس فى العام 2013، عندما عمدت مجموعة متشددة على ارتباط بتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى إلى احتجاز العديد من الرهائن وقتل العشرات منهم. وقد أنشأت الحكومة جهازا استخباراتيا جديدا ليحل مكان دائرة الاستعلام والأمن. يُعرَف الجهاز الجديد بمديرية المصالح الأمنية ويخضع مباشرة لسلطة الرئاسة. لكن، وعلى الرغم من أن المعسكر الموالى لبوتفليقة يحمل دائرة الاستعلام والأمن مسئولية الإخفاقات الأمنية التى منيت بها الجزائر فى السابق فيما يستعرض مهاراته، إلا أن استمرار الهجمات يقوض روايته هذه.
***
فى 11 مارس الماضى، أفاد الجيش الجزائرى بأنه قتل ثلاثة متشددين إسلاميين، بينهم زعيم كتيبة «فتح المبين» التابعة لتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب، على مقربة من مدينة الوادى بشرق البلاد. وذكر أيضا أنه ضبط كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة، منها ستة صواريخ مضادة للطائرات، وثلاث قاذفات صواريخ، وأكثر من 20 مسدسا. لكن بعد أسبوع، فى 18 مارس الماضى، هاجم عناصر من تنظيم القاعدة مصنعا للغاز فى منطقة كرابشة فى مدينة عين صالح، تشغله بصورة مشتركة سوناطراك الجزائرية، وستاتويل النرويجية، وشركة بريتيش بتروليوم البريطانية للنفط. على الرغم من أن هذا الهجوم الذى نُفِذ بواسطة قذائف صاروخية لم يتسبب بوقوع أضرار أو سقوط ضحايا، إلا أنه شكل تحديا مباشرا لمزاعم السلطات الجزائرية بأنها هزمت الإرهاب. وقد تهكم البيان الرسمى الصادر عن تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب، بالسلطات الجزائرية متسائلا كيف سيبررون الوضع الأمنى لـ«أسيادهم الغربيين».
نفذ الجيش العديد من العمليات الأخرى لمكافحة الإرهاب طوال شهر مارس الماضى، منها ضبط أسلحة أو ذخائر. لكن بدلا من تسليط الضوء على كفاءة القوى الأمنية، ربما تثير هذه العمليات مزيدا من القلق فى أوساط الرأى العام عبر لفت الأنظار إلى تزايد التهديدات الناجمة عن مجموعات مدججة بالسلاح فى الجزائر، مع العلم بأن عددها كان قليلا نسبيا فى الأعوام السابقة. على الرغم من أن تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى يشكل تهديدا منذ زهاء عقد من الزمن، إلا أن القوى الأمنية الجزائرية تواجه الآن تهديدات متزايدة من تنظيم الدولة الإسلامية الذى ينمو نتيجة الفراغ السياسى والأمنى فى ليبيا، والذى يقف تنظيم جند الخلافة التابع له خلف مقتل السائح الفرنسى هيرفيه جورديل على الأراضى الجزائرية فى سبتمبر 2014. وقد أقدمت مجموعتان صغيرتان أخريان، أنصار الخلافة وسرية الغرباء اللتان تنشطان فى محافظتَى سكيكدة وقسنطينة على التوالى، على مبايعة الدولة الإسلامية أيضا.
منذ الهجوم على عين أميناس الذى أودى بحياة أربعين عاملا فى القطاع النفطى فى العام 2013، اتخذ الجيش الجزائرى إجراءات لحماية مصانع النفط والغاز عبر تحسين نقاط التفتيش العسكرية فى محيطها، ورفع مستوى المراقبة فى هذه المنشآت عن طريق الكاميرات والاستطلاع الجوى. وردا على الهجوم الأخير فى عين صالح، نشر الجيش الجزائرى 5000 جندى إضافى لحماية مصانع الغاز فى الجنوب، وأعلن عن خطط لتعزيز الأمن على طول الحدود مع ليبيا ومالى والنيجر، فضلا عن منح سلاح الجو دورا أكبر فى عمليات مكافحة الإرهاب. يحاول الجيش أن يوحى للعالم الخارجى بأن السبب فى تلك الهجمات كان عدم فعالية النهج الذى اعتمدته دائرة الاستعلام والأمن فى مكافحة الإرهاب، ليس فى عين أميناس وحسب، إنما على امتداد عقود. حتى إن عمار سعيدانى، أمين عام جبهة التحرير الوطنى، اتهم دائرة الاستعلام والأمن بالفشل فى إحباط اغتيال الرئيس محمد بوضياف فى العام 1992، وفى منع محاولة اغتيال الرئيس بوتفليقة التى باءت بالفشل فى باتنة فى العام 2007.
***
داخليا حلفاء توفيق والجهات المرتبطة بدائرة الاستعلام والأمن، بينهم ضباط سابقون وجنرالات متقاعدون، هم من يشعرون بالقلق من أن الجيش الجزائرى لا يستطيع مكافحة الإرهاب من دون الدائرة. لكن ثمة إدراك عام بأن كل المؤسسات القديمة فى الجزائر – دائرة الاستعلام والأمن، إنما أيضا سواها من الأجهزة الأمنية فضلا عن الحكومة المدنية – غير جديرة بالثقة. هذه المشكلة فى المصداقية يزيد من حدتها تجدد المزاعم عن تفشى الفساد داخل دائرة الاستعلام والأمن المنحلة. ففى يناير الماضى، نشرت وزارة الخارجية الأمريكية بعضا من رسائل البريد الإلكترونى الشخصية العائدة لوزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون. وقد كشفت إحدى تلك الرسائل، التى أعيد نشرها فى الصحافة الجزائرية فى 17 مارس الماضى، النقاب عن رابط مزعوم بين دائرة الاستعلام والأمن ومختار بلمختار، أمير جماعة «المرابطون» التابعة لتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب. بحسب التقارير، ساعد بلمختار دائرة الاستعلام والأمن فى عملية نفذتها فى العام 2012 لإنقاذ قنصل جزائرى احتُجِز رهينة فى مالى، وأذعن للتحريض من الدائرة على «مهاجمة المصالح المغربية فى الصحراء الغربية». زجت هذه المعلومات بالمؤسسات الجزائرية جميع فى موقف محرج للغاية.
حتى إن جيران الجزائر تساورهم شكوك أكبر حول ما إذا كانت إخفاقاتها الأمنية قد انتهت فعلا. فمجموعة دول الساحل الخمس (مالى وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) تشعر بأن الجزائر غير قابلة للتوقع فى ما يتعلق بالنهوض بمسئولياتها الأمنية، ولذلك قررت إطلاق مشروعها الخاص لبسط الأمن فى المنطقة. تنوى هذه المجموعة، كما كتبت صحيفة «لوموند» الفرنسية، فتح مدرسة للتدريب العسكرى فى نواكشوط، وتشكيل قوة تدخل سريع، وتكثيف الدوريات الحدودية المشتركة. لقد اتُخِذت هذه القرارات من دون مشاركة الجزائر، وأحد الأسباب هو اعتبار لجنة الأركان العملياتية المشتركة – آلية تعاون إقليمية لمكافحة الإرهاب أنشأتها الجزائر فى العام 2010 وتتخذ من تمنراست مقرا لها – جهازا غير فعال. على سبيل المثال، لم تتجاوب الجزائر مع الطلبات التى رفعتها إليها مالى لتقديم المساعدة العسكرية عندما تقدم الجهاديون نحو باماكو فى يناير 2012. وفى مايو 2013، لم تساعد الجزائر النيجر لوقف الهجمات الإرهابية فى أغادير وأرليت. علاوة على ذلك، تعتقد هذه الدول أن الجزائر دعمت معظم، إن لم يكن جميع الجماعات الإرهابية فى الساحل.
***
بيد أن الجزائر لم تطلق مبادرة لجنة الأركان العملياتية المشتركة بهدف أن يكون لها حضور فعال. بل كانت مجرد مناورة دعائية ناجحة لإيهام الغرب بأنها تضع التهديدات الإقليمية تحت السيطرة، وثَنى الدول الغربية عن التدخل بصورة أكثر مباشرة فى الصحراء الغربية والساحل. بيد أن سجل الجزائر السيئ فى تنسيق المقاربات الإقليمية لمكافحة الإرهاب يؤثر سلبا فى خططها الأخيرة للظهور فى صورة الدولة التى تحافظ على الأمن وتبسط سيطرتها. تخشى فرنسا أن تتعرض لمزيد من الاستهداف من الجهاديين فى حال عمدت إلى زيادة انتشارها العسكرى فى دول الساحل، ولذلك تدعم مبادرة مجموعة دول الساحل الخمس التى ترى فيها وسيلة لخفض وجودها والتزاماتها العسكرية فى الساحل.
على الرغم من أن الجزائر لم تطلب أن تكون جزءا من المشروع الذى أطلقته مجموعة دول الساحل الخمس، إلا أنها توقعت ضمها إليه. كما أن خبرة الجزائر ومعرفتها الواسعة بالمجموعات القتالية فى مختلف أنحاء الساحل لا تُقدَران بثمن ولا غنى عنهما لنجاح أى آلية أمنية متعددة الأطراف. بدلا من التركيز على نظرة الرأى العام إلى كفاءة القوى الأمنية، الفرصة سانحة أمام السلطات الجزائرية لإطلاق استراتيجية أمنية أكثر فعالية فى حال كانت هناك خطوات فعلية من أجل تنسيق إقليمى أكبر وتشارُك المعلومات.

اقتباس
بيد أن سجل الجزائر السيئ فى تنسيق المقاربات الإقليمية لمكافحة الإرهاب يؤثر سلبا فى خططها الأخيرة للظهور فى صورة الدولة التى تحافظ على الأمن وتبسط سيطرتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved