أوباما وانهيار الأحزاب الأمريكية

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الخميس 12 مايو 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

ما يتعرض له الحزبان الرئيسيان الجمهورى والديمقراطى من أزمة غير مسبوقة تتمثل فى وصول مرشح لا ترضى عنه قيادات وقواعد الحزب التقليدية فى الحالة الجمهورية، واستمرار سباق لم يتخيله أحد بين ابنة الحزب المدللة وبين مرشح اشتراكى لم يسمع عنه أحد قبل عدة أشهر فى الحالة الديمقراطية، يمكن رده بصورة مباشرة إلى الرئيس باراك أوباما. لم يدمر أوباما فقط الحزب الجمهورى، بل ساهم أيضا فى خلخلة قواعد الحزب الديمقراطى الذى ينتمى إليه. ومثلت لحظة صعود وانتخاب أوباما عام 2008 خطوة أولية فى خلخلة التركيبة الحزبية الأمريكية، وأضاف نجاحه الكبير داخليا ما يمثل الضربة القاضية ضد الحزب الجمهورى.
دخل الشاب الأسود باراك حسين أوباما معترك السياسة الحقيقية من بوابة مجلس الشيوخ كسيناتور صغير غير معروف من ولاية إلينوى فى يناير 2005 متخطيا عقبات جمة داخل الحزب الديمقراطى. وبعد قضاء أقل من نصف فترته (تبلغ ست سنوات فى مجلس الشيوخ)، تطلع أوباما لمنصب الرئيس الأمريكى. ولم تستطع مؤسسة الحزب الديمقراطى أن تفرض ابنتها الأهم هيلارى كلينتون زوجة بيل كلينتون أحد أنجح السياسيين الديمقراطيين المعاصرين كمرشحة للحزب. ولم يكن أوباما ليستطيع الصمود ماليا أمام إمبراطورية كلينتون إلا بمساندة ملايين الشباب وملايين من مواطنى الأقليات والتقدميين البيض ممن دعموه بدولار واحد أو خمسة إيمانا منهم بما كان يمثله من ثورة سياسية (بالمعايير الأمريكية). واستطاع أوباما الوصول للبيت الأبيض متمردا على المؤسسة الديمقراطية، ونجح فى ازاحة كلينتون من طريقه الانتخابى الوعر، وتحجيم دور المؤسسة الحزبية.
هاجم الجمهوريون الرئيس أوباما فور وصوله للبيت الأبيض، وتعهدت قيادات الحزب فى الكونجرس بأن يكون أوباما رئيسا لفترة واحدة، واستخدمت فى سبيل ذلك كل الأساليب لعرقلته من خلال الكونجرس. لجأ الحزب الجمهورى لتبنى سياسات وخطابات تؤجج العنصرية الصامتة والتعصب والاسلاموفوبيا الخطيرة، مرة بالتشكيك فى أن أوباما ليس أمريكيا كونه ولد فى ولاية هاواى لأب مهاجر من كينيا، ومرة بتصنيفه كمسلم (وكأنها جريمة). ولعب لون بشرته الأسود دورا كبيرا فى ارتفاع نبرة الخطاب العنصرى لدى الكثير من القيادات الجمهورية.
***
ويمثل سجل أوباما الناجح فى القضايا الداخلية حتى اليوم مفاجأة، إلا أن المفاجأة الأهم تتمثل فى آثارها المدمرة على الحزب الجمهورى. بدأ أوباما حكمه فى ظل أزمة مالية عالمية هددت بإسقاط قواعد النظام المالى العالمى، واستطاع خلال أسابيع وأشهر حكمه الأولى أن يعبر ببلاده هذه الأزمة بأقل تكلفة ممكنة.
ورغم عداء الكونجرس الذى يسيطر على مجلسيه الحزب الجمهورى المنافس، استطاع أوباما تمرير أهم تشريعات تتعلق ببرامج الرعاية الصحية خلال نصف القرن الأخير نتج عنها ضم 21 مليون أمريكى لمنظومة التأمينات الصحية، وانخفضت نسبة من ليس لديهم تأمين صحى إلى 10% من الأمريكيين بعدما كانت أكثر من 20%. نجح أوباما أيضا فى تغيير منظومة قطاع الطاقة الأمريكى نتج عنها تقليل الاعتماد على بترول الخارج، وزيادة غير مسبوقة فى استخدامات مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة. واعتمد أوباما أخيرا سياسات تعادل مرتبات النساء بالرجال فى مختلف القطاعات.
لم تقتصر نجاحات أوباما على المجال الداخلى فقط، فأوباما نجح نجاحا كبيرا فى إدارته لملفات السياسة الخارجية (باستثناء ملفات عربية السورى والمصرى). أعاد أوباما إيران للحظيرة باتفاق تاريخى حول ملفها النووى مع القوى الكبرى المهمة رغم معارضة الحلفاء العرب والحليف الإسرائيلى واللوبى الجمهورى الداخلى. وتمثل عودة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا انجازا لا يقدره إلا من يعرف تفاصيل العداء الذى يذهب بجذوره للحظة نجاح الثورة الشيوعية قبل أكثر من نصف قرن وسيطرة كاسترو على السلطة. ووطد أوباما علاقة بلاده بالدول المطلة على المحيط الهادى بصورة غير مسبوقة أيضا. إلا أن أوباما لم يعرف النجاح فى التعامل مع الملف الإنسانى والحقوقى المرتبط بالحرب الأمريكية على الإرهاب التى ورثها من إدارة جورج بوش السابقة عليه، نعم أوقف أوباما أساليب التعذيب المختلفة، وجرم القيام بها، إلا أنه ضاعف من هجمات الطائرات بدون طيار فى عدة دول منها العراق واليمن وليبيا وباكستان وغيرهم.
***
ظهرت نتائج تلك الاستراتيجية التى اتبعها الجمهوريون فى أول انتخابات تجديد نصفى للكونجرس بعد وصول أوباما للحكم والتى أجريت عام 2010 ونجحت حركة حزب الشاى اليمينية المتشددة أن تخرج من رحم الجمهوريين بإنجاح عدد كبير من مرشحيها فى مجلس النواب ومجلس الشيوخ رغم خطابهم العدائى والعنصرى والفاشى أحيانا، وهو ما مثل صدمة للجمهوريين التقليديين. ولا توجد لحركة حزب الشاى أى قيادة مركزية فهى تيار فكرى واسع يدعو لخفض الانفاق الحكومى، ويعارض أى زيادة فى الضرائب، وتدعى أنها تواجه «الأسلمة». ومن أبناء حركة حزب الشاى المتشددة خرجت أسماء مثل السيناتور والمرشح الرئاسى تيد كروز تتبنى خطابا أقل ما يوصف به أنه عنصرى، إلا أنه أيضا يعكس الاتجاه العام الذى تبناه الحزب الجمهورى تجاه ما يمثله الرئيس أوباما.
ولم تتوان المؤسسة الجمهورية، ممثلة فى شبكة كبار المسئولين الحاليين والسابقين للحزب وممثلى الحزب سواء فى الكونجرس أو المناصب التنفيذية والمراكز البحثية المرتبطة بالأحزاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة وأخيرا وسائل الإعلام القريبة من تلك الأحزاب مثل محطة فوكس، عن بث أكاذيب وتشويه سجل حكم أوباما والترويج لأكاذيب أن أمريكا على شفا الانهيار، وأن قوة أمريكا تنحدر بين الأمم. ومن ثم انقلب السحر على الساحر بوصول هذا الخطاب المتطرف سياسيا إلى قواعد الحزب الجمهورى، وهو ما مهد السبيل أمام سطوع ونجاح المرشح دونالد ترامب. لم يتبن ترامب خطابا عنصريا يمينيا خاصا به، هو فقط ترجم سياسات الجمهوريين ومواقفهم السياسية المُتبعة منذ وصول ونجاح أوباما فى الحكم. إلا أن سباق الانتخابات التمهيدية حتى الآن تظهر أن آثار أوباما التدميرية لم تقف عند الحزب الجمهورى، بل يبدو أنها تمددت لتصل للحزب الديمقراطى، الذى نجح خلاله المرشح بيرنى ساندرز من الاستمرار فى خلخلة أسس الحزب الديمقراطى عن طريق اتباعه نفس منهج وآلية حملة الرئيس أوباما لانتخابات 2008.

اقتباس
استطاع أوباما الوصول للبيت الأبيض متمردا على المؤسسة الديمقراطية، ونجح فى ازاحة كلينتون من طريقه الانتخابى الوعر، وتحجيم دور المؤسسة الحزبية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved