العرب والدين والعالم الحديث

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 12 مايو 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

كما شرحت فى آخر مقالة كتبتها فى هذه المساحة، فإن أحد العوامل التى تصنع الفارق بين المنطقة العربية وبين العالم الحديث هى الدين، والحديث هنا ليس على استبعاد الدين من المساحة العامة لأن هذا غير ممكن، وبحسب إيمانى الشخصى غير مرغوب، والأهم أنه غير موجود فى العالم الحديث الذى أصبح يرحب بدرجات متفاوتة بتواجد الدين فى المساحة العامة، ولكن المطلوب هو أن يتم تنظيم هذه العلاقة بين الدينى والعلمانى، بين الكهنوتى والبشرى، بين المؤسسات الدينية وبين الدولة.

الغالبية العظمى ممن يسكنون المنطقة العربية (من عرب وغير عرب) هم مسلمون على المذهب السنى، يليهم المسيحيين على اختلاف مذاهبهم بالإضافة إلى تنويعات أخرى من الشيعة واليهود والدروز واللادينيين..إلخ. تجمع الدراسات العلمية المهتمة بالمنطقة أن كون الديانات الثلاث الإبراهيمية نشأت فى هذا المكان فهذا ربما يزيد من أهميتها ويجبر جميع الباحثين الجادين على التعامل مع المنطقة ثقافيا بشكل مختلف. فى تقديرى فإن الخصوصية الثقافية للمنطقة العربية لا يمكن إنكارها، ولكن المبالغات فى التركيز على هذا العامل الثقافى كمفتاح لتفسير كل الاختلافات بيننا وبين الغرب فيه تزيد ومبالغات غير مطلوبة. الدين مهم فى أماكن أخرى كثيرة من العالم، رأيت المتدينين فى كل مكان ذهبت إليه أو عشت فيه أو قرأت عنه، فى أمريكا اللاتينية تشكل الكاثوليكية جزءا أساسيا من حياة الناس اليومية، ونفس الحال بالنسبة للبروتستانتيات الأمريكية أو الأرثوذكسية فى روسيا وشرق أوروبا واليونان أو الهندوسية فى الهند أو اليهودية فى إسرائيل والأراضى الفلسطينية المحتلة.

لكن أين إذن تكمن أزمتنا تحديدا؟ الأزمة تحديدا أن السلطات العربية لا تريد أن تفصل الدولة عن الدين كما يفترض بعض الإسلاميين، فالسلطة العربية وعلى العكس تقوم بتأميم كل المنابر الدينية وتستخدم الدين كأداة للتعبئة والسيطرة والتجهيل، ويساعدها على ذلك مجموعة من الكهنة المسلمين والمسيحيين الذين يظهر عليهم الورع والسكينة وما معظمهم إلا بأفاق أو نصاب أو محتال يوظف جيشا من الموظفين لتحقيق مآرب السلطة من ناحية وبعض المكاسب الشخصية من ناحية أخرى. ولأن الموضوع مربح وجالب للشهرة والمال والسلطة، فإنه وبالتوازى مع هؤلاء الكهنة الرسميين ظهر مجموعة أخرى من الكهنة الشعبويين وحاولوا هم أيضا تنفيذ اللعبة نفسها، إما لمنافسة الدولة/السلطة على مساحات السيطرة والتعبئة هذه، أو لمساعدتهم بشكل مستقل وأقل رسمية وأكثر حميمية.

***

انظر إلى عشرات ممن يعرفون بالدعاة الشباب فى مصر والعالم العربى وأنت تدرك حجم الأزمة، مجموعة من المشعوذين فى حلل حديثة تساير الموضة يستخدمون الدين كما يستخدم الطبيب مادة المورفين لتخدير المريض وتغييبه عن الوعى، استمع إلى خطب الجمعة أو عظات الكنائس وأنت تدرك حجم الكارثة حيث إن غالبيتها يتراوح بين كلام غير عصرى يتحدث عن شخصيات قديمة أو قصص أسطورية لا يصدقها سوى الأطفال أو محدودى العلم والتعليم والذكاء، أو كلام غير علمى يفتى فى التاريخ والسياسة والعلاقات الدولية والطب والكيمياء والفيزياء وعلم النفس دون أى منهج أو بحث، مجرد شعوذة تستمد قوة إقناعها من قدسية المنبر الذى انطلقت منه فقط لا غير، أو مجرد أدوات للسيطرة على عقول الناس وإقناعهم بالتخلى عن المساحات العامة والتخلى عن الحقوق والحريات وكله باسم الله!

ليت الأمر يتوقف هنا، ولكنه يمتد أيضا للتدخل فى حياة الناس وحرياتهم الشخصية، هذه لا تستطيع أن تتزوج من هذا لأنه على غير دينها، وهذه لا تستطيع أن تطلق هذا حتى لو لا تطيقه لأنه على دينها، وهذا مدان لأنه يحب هذه وهذه مدانة لأنها تكشف شعرها، وهكذا تحول الدين من وسيلة روحية للارتقاء وإقامة العدل ونشر الرحمة إلى أداة بطش وحرمان وإخضاع وإذلال.

انظر إلى هذا الشيخ الذى يخصص موقعه للتاريخ ويعتبره ملايين الأتباع من المؤرخين رغم أنه دجال! أو إلى هذا الذى لديه برنامج ثابت فى إحدى الفضائيات العربية يخصصه لشرح الفروق «العلمية» بين الرجال والنساء وما هو إلا بمشعوذ ونصاب باسم الدين والعلم معا، أو إلى هذا الثالث الذى حدثنا عن عظة هتلر الإسلامية/القرآنية التى شحنت الجماهير فى الحرب العالمية الثانية أو إلى هذا الرابع الذى وقف أمام المذبح ليشرح للناس إرادة الله فى رفع الأسعار أو يد الله فى اختبار الرؤساء، وهكذا قائمة لا تعد ولا تحصى من التضليلات باسم الله!

هنا تبدو الأمور واضحة لأصحاب العقول، أزمة المنطقة العربية ليست فى أن الدين موجود فى المساحة العامة وبالتالى يجب التخلص منه كما يعتقد بعض العلمانيين العرب، ولكن أزمة الدين هى أنه يتلبس السلطة تارة، والعلم تارة والمجتمع تارة أخرى، فتحول إلى مجرد أداة من أدوات السلطة والتجهيل والبطش لا أكثر ولا أقل!
ماذا يكون الحل إذن ؟! هناك ثلاثة حلول مطروحة أمام العرب:

الحل الأول يتمثل فى حياد الدولة/السلطة العربية تجاه كل الأديان وبالتالى التعامل مع مواطنيها بشكل قانونى بحت. كل المواطنين لهم كل الحقوق وعليهم نفس الواجبات أيا كانت أديانهم أو عقائدهم، من أراد منهم أن يلجأ للمحاكم الدينية فى أحواله الشخصية فهذا متاح، ومن أراد منهم أن يلجأ للقوانين الوضعية، فهذا خياره الذى يجب أن يكون متاحا أيضا، وبدلا من عقاب رجال الدين الذين يتدخلون فى السياسة، يجب عقاب السياسى الذى يتدخل فى أمور الدين ويحاول استخدامه لتحقيق مأربه وأهدافه السلطوية.
الحل الثانى يتمثل فى إعادة فهم رجل الدين لوظيفته وحدود قدراته، رجل الدين الذى لم يقرأ سوى فى العلوم الشرعية/الكهنوتية فعلمه محدود ومتحيز وسطحى ولا يخول له لبس العمامة أو الصليب أن يفتى فيما لا يفهم، عليه أن يقتنع أن التاريخ الذى قرأ عنه ويبشر به هو تاريخ مسرود بشكل متحيز وانتقائى، وأن أى نظريات علمية يعتقد أنها وردت فى النصوص المقدسة تظل محل بحث وتساؤل طالما لم يتم إثباتها علميا، أما علوم النفس والاجتماع والسياسة والإنسانيات من تاريخ وفلسفة وآداب وفنون فهو آخر من يتحدث عنها لأن أدواته لن تساعده مهما فعل أو حاول. وإذا قرر أن يدرس كل هذه العلوم أو بعضها فهذا مرحب به، ولكن بشرط أن يخلع ثوبه الدينى ويتخلى عن قناعاته المطلقة (وهى طبيعة المعرفة الشرعية أو الدينية) ويخضع كل حقيقة عرفها للشك والتساؤل والتجربة والمقارنة والاختبار، فهل يفعل؟

أما الحل الثالث فهو فى يد الناس، فالواقعية تقتضى أن نقول إنه لا السلطات العربية ستتخلى عن الدين كأداة للسيطرة ولا سيدرك رجال الدين حقيقة محدودية معارفهم وأدوارهم وطبعا لن يتخلوا عن مكاسبهم باسم الله، ومن هنا فالدور على المواطن العربى، الذى عليه أن يرتقى علميا ومعرفيا ليقرر هو بنفسه تأطير علاقته برجال الدين وعلمائه، وضع الدين فى إطاره الصحيح كأداة للسمو الأخلاقى الروحى، عليه أن يخضع كل كلام رجال الدين للتساؤل والبحث، عليه أن يختار ما يقبل وما يرفض، عليه أن يتحدى سلطة رجل الدين ولا يقلق لأنه لا يتحدى الله كما يبدو أو كما حاولوا إقناعه، ولكنه يتحدى من يدعى أنه يتحدث باسم الله، عليه أن يعرف أن أقصى ما يمكن لرجل الدين فعله هو الحديث عن بعض الأمور الروحية أو الأخلاقية أو المتعلقة بتنظيم العبادات، وما عدا ذلك فيجب أن يصم أذنه عنهم، على المواطن العربى أن يكف عن الاستماع لسرديات التاريخ أو تحليل السياسة أو النظريات العلمية من رجال الدين، على المواطن العربى أن يدرك الطريقة الماكرة التى يتسلل بها رجال الدين إلى حياته الاجتماعية وحرياته الشخصية فيقلبونها رأسا على عقب باسم الله، عليه أن يدرك أن جميع السرديات الدينية التى تحدد ما يسمى بالقيم المطلقة بلا استثناء واحد فى التاريخ كانت تخدم الأقوى فقط، دين الغنى غير دين الفقير، حلال القوى غير حلال الضعيف، عدل ورحمة من فى السلطة غير عدل ورحمة من خارجها، وما المؤسسات الدينية ورجالها عبر التاريخ سوى كهنة وخدم لتطويع القيم الاجتماعية والسياسية للمنتصر، وتطور وعى المواطن العربى بكل هذا هو وحده الكفيل بإيقاف هذا الدور المشبوه للمؤسسات الدينية فى حياتنا المعاصرة التى تمنعنا من الالتحاق بالمجتمعات المعاصرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved