تأسيسية الدستور.. والتوافق الضائع

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 12 يونيو 2012 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

يتوجه أعضاء مجلسى الشعب والشورى صباح اليوم لاجتماع مشترك فى مدينة نصر من أجل اعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور فى أعقاب سقوط الجمعية السابقة (المشكلة فى نفس المكان) والتى لفظها المجتمع قبل أن تحكم المحكمة الادارية بوقف تشكيلها. يعود أعضاء المجلسين الى مدينة نصر فى محاولة لتصحيح ما كان يمكن تجنبه من البداية لو كانت النوايا حسنة، ولو كانت مصلحة الوطن مقدمة على مصلحة الأحزاب، ولو كان التوافق الذى يتغنى به الجميع مطلبا حقيقيا.

 

لا أعلم ماذا تكون نتيجة اجتماع اليوم ولكننى لست متفائلا. تقديرى أن الجمعية التأسيسية الجديدة قد تكون أفضل من التى سبقتها، وقد تضم عددا أكبر من خبراء القانون والدستور، وقد تتسع لمزيد من ممثلى المسيحيين والمرأة والشباب والمجتمع المدنى، وكل هذا سيكون بلا شك تقدما على التشكيل السابق. ولكنى مع ذلك غير متفائل لأنه لو كان الدستور ــ كما يكرر الجميع ــ وثيق ةتوافقية لا تحتمل الانقسام ولا التحزب ولا التصنيف السياسى، ولوكان وثيقة تعبر عن القاسم المشترك فى ضمير الأمة والثابت لديها من القيم والمبادئ، ولوكان وثيقة تهدف لصياغة الآمال المشتركة للشعب، فإن الجمعية التأسيسية التى سيجرى تشكيلها اليوم لن تعبر عن ذلك، ليس لعيب فيمن سوف تتضمنهم، ولكن لأن ظروف تشكيلها والصراعات التى دارت حولها فى الأسابيع الماضية جعلتها أبعد ما تكون عن فكرة التوافق وعن الأهداف النبيلة التى تنهض عليها عملية كتابة الدستور. وهذا وضع مؤسف للغاية شاركنا جميعا فى الوصول إليه وفى تعميقه حتى انتهينا فى هذه الحالة «عكس ــ التوافقية».

 

فكرة التوافق لم تؤخذ من البداية مأخذ الجد، خاصة من قبل الحزبين الكبيرين فى البرلمان (الحرية والعدالة والنور)، بل سيطرت عليهما فكرة أن الأغلبية التى حصلا عليها فى الانتخابات البرلمانية هى المعيار الوحيد الذى يحتكم اليه فى تشكيل الجمعية بحيث يكون التيار الإسلامى ممثلا فيها بنسبة ما حصل عليه من مقاعد برلمانية. أما باقى قوى المجتمع، والتى لا يمثلها فى البرلمان سوى أقلية لا تتجاوز خمسة وعشرين فى المائة، فلها أن تشارك فى الجمعية التأسيسية ولكن بشرط أن تقنع بدور المتفرج أو الشريك الصغير الذى يكفيه شرفا أن يكون حاضرا وممثلا فى اللجان والاجتماعات والصور الجماعية، دون أن يكون مؤثرا على النتائج والقرارات الكبرى. ولذلك فحتى حينما تم الاتفاق فى الأسبوع الماضى على ألا يكون لأى تيار واحد نسبة تمثيل فى الجمعية التأسيسية تمكنه من السيطرة منفردا، جرى من المناورات وعمليات الالتفاف ما يضمن إفراغ هذا المبدأ من مضمونه بحيث يكون للتيار الإسلامى فى النهاية السيطرة والقدرة على توجيه الأمور. وهذا الأسلوب فى التعامل مع الجمعية التأسيسية جاء متناقضا مع فكرة التوافق وروح الاجماع التى كان يجب أن تسود منذ البداية.

 

اما اعتبارات الكفاءة والخبرة فى تشكيل الجمعية فقد تراجعت أمام إصرار كل طرف على ان يكون ممثلا بنسبة مئوية معينة لأن القوة التصويتية صارت هى الغرض الأساسى والهدف الوحيد. وفى هذا لا أعفى التيار المدنى من المسئولية. فقد اندفعنا بدورنا نحو ثنائية «الإسلامى/ المدنى» وصار المخرج الوحيد من الأزمة هو القبول بمناصفة لا تستقيم مع فكرة التوافق وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وظن التيار المدنى أنها المخرج من الأزمة فإذا بها تتحول إلى مصيدة أكبر. فليس كل مواطن فى مصر قابلا لهذا التصنيف، ولا هو معيار قابل للتطبيق على ممثلى المؤسسات الرسمية للدولة. وهكذا بدأنا رحلة البحث فى الضمائر والنفوس وإقامة محاكم التفتيش السريعة (نظرا لضيق الوقت) فيما إذا كان فلانا يؤمن بالدولة الدينية أم المدنية، وما اذا كانت مواقفه المعلنة تعبر عن جوهر معتقداته أم أنه يظهر أمرا ويبطن غيره، وما اذا كانت مؤسسات يفترض أنها مستقلة وغير مرتبطة بمواقف سياسية ــ كالأزهر والقضاء والكنيسة ــ يمكن احتسابها ضمن معسكر فكرى معين. قبول هذا التقسيم الإسلامى/المدنى كان ربما محاولة للخروج من مأزق سياسى ومن أزمة ضاغطة، ولكنه انقلب إلى وبال على الجميع وإلى إعلان رسمى بأن التوافق ليس ممكنا ولا مكان له فى هذه الأجواء المحمومة.

 

ثم نأتى لفكرة تمثيل المجتمع تمثيلا متكافئا، وهى الأكثر صعوبة. فلا شك أن مشاركة قوى المجتمع الرئيسية كلها شرط لسلامة كتابة الدستور. ولكن من يمثل المجتمع؟ النقابات؟ أم الاتحادات؟ أم الجمعيات الأهلية؟ أم الأحزاب السياسية أم الأفراد الذين يحملون صفات معينة؟ الإجابة ليست سهلة لأن مفهوم كل واحد عن المجتمع وعن القوى الاجتماعية الرئيسية وعمَّن يمثلها مختلف.

 

فهل يمثل النساء فى مصر بالضرورة امرأة أم من يعبر عن مشاكلهن وأولويات الارتقاء بهن أم الجمعيات النسوية المعنية بالموضع؟ وهل يمثل هموم المعاقين

 

واحتياجهم لمعاملة عادلة فى المجتمع من هو معاق مثلها أم ممن يقدر على تبنى قضيتهم؟ وهل يمثل المسيحيين فى مصر الكنيسة وحدها؟ وهل هناك بهذا المعنى ضرورة لتمثيل كل المناطق الجغرافية؟ تقديرى أن التمثيل السليم يكون التمثيل المؤسسى حيث تمثل الجمعيات والاتحادات والمنظمات الأهلية مصالح محددة. ولكن الواقع أن حالة الاستقطاب الحزبى دفعت بمعايير شكلية خلت من المضمون، فصار المهم وجود عدد من النساء أيا كانت المصالح التى تدافع عنها، وعدد من المسيحيين أيا كان موقفهم، لأن التمثيل صار شكليا وليس مؤسسيا ولا معبرا عن مصالح فى المجتمع، فى هذا خروج شديد عن الفكرة والهدف من التوافق.

 

وأخيرا فقد وجدنا أنفسنا فى وضع لا نحسد عليه، إذ الجمعية التأسيسية يتم اختيارها قبل أيام من الجولة الثانية من انتخابات رئاسية، وبالتالى فبدلا من أن يكون تشكيل الجمعية معبرا عن توافق ووئام واجماع فى المجتمع، إذا بالموضوع كله يختلط بالمعارك السياسية الدائرة، وبمن يحصل على أصوات وتعاطف الناخبين فى اللحظة الأخيرة، وصار الدستور ــ أهم وثيقة قانونية فى البلد ــ أداة انتخابية ووسيلة للتفاوض والمناورة بينما كان من الضرورى أن يكون تشكيل الجمعية التأسيسية بمنأى عن كل هذا وفى مكانة تعلو على الصراعات السياسية المباشرة.

 

اليوم يتم انتخاب جمعية تأسيسية جديدة لم تتضح بعد ملامحها وأنا أكتب هذه السطور، ولذلك فتعليقى ليس على الجمعية وحدها ولا على أعضائها الذين أثق أنهم سيكونون أشخاصا جديرين بالاحترام، وإنما تعليقى على التوافق الذى ضاع فى خضم  الصراع السياسى، وفى غمرة الانشغال بالحصص الحزبية والنسب التصويتية. وهذه خسارة كبرى لأن هذا التوافق لم يكن مطلوبا فى الدستور فقط، ولكنه أساس يحتاجه المجتمع لكى يواجه به التحديات الكبرى والقرارات المصيرية التى سيلزم علينا أن نتخذها فى المستقبل. أما استمرار حالة الانقسام الإسلامى/المدنى، واستمرار الصراعات الحزبية الضيقة، فسوف تكون الأحزاب أول من يدفع ثمنه غاليا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved