ترامب كاتب الرواية أم بطل من أبطالها؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2019 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

تابعت بشىء كبير من الشغف ولمدة غير قصيرة أفعال الرئيس دونالد ترامب. الآن أتابع أفعاله بشىء كبير من القلق وبدون شغف. كان للشغف ما يبرره، إذ جاء الرجل فى أعقاب عهد أمريكى معجون بالملل. قضينا، وبكلمات دقيقة، قضيت مدة العهد السابق متابعا علامات مكررة لدولة عظمى تنحدر فى المكانة وتنسحب من مواقع قوتها ولا تحاول بالجهد المناسب صنع البديل المتمكن. أذكر أن بعضا من الناس التهى عن الملل بتحليل بلاغة الخطاب السياسى، وبالفعل كان باراك أوباما قمة فى بلاغة اللغة. هذا الرجل الذى أجاد فهم القانون وعلاقته بالسياسة واستشعر عن بعد كاف بتسارع درجات انحدار بلاده كان متواضعا فى فهم مغزى التحولات الجارية فى ذلك الوقت سواء فى داخل المجتمعات عامة أو فى قواعد العمل الدولى وعلاقات الدول ببعضها البعض. لم يقتنع كفاية بأن الأزمة المالية والاقتصادية التى وقعت عشية تسلّمه الحكم وغداته كانت لا بد وأن تثمر تغيرات جوهرية فى وعى الطبقة السياسية الحاكمة فى معظم دول العالم الرأسمالى وفى البنى الاجتماعية فى عديد الدول. من ناحية أخرى لم يقدر أوباما الثورة التكنولوجية الكاسحة حق قدرها ولم يحسب حسابها فى إرساء علاقات أمريكا بالدولتين المنافستين لأمريكا، الصين وروسيا.

***
جاء ترامب فتوقف الشغف واشتعل القلق. أينما وجهنا آذاننا لنسمع وعيوننا لتبصر نقابل القلق. زميل سابق عائد من رحلة عمل طويلة فى أمريكا الجنوبية فاجأنى بإجابة عن سؤال تقليدى يسأله من يعرف شيئا عن هذه القارة. قال: القارة تعود إلى المربع رقم واحد. شعوب تشتبك مع هوياتها. الفساد يقضم الحاضر والمستقبل معا. الطبقة الوسطى تضمر أو تذوب أطرافها فى كتل الفقر وعشوائيات الفكر والثقافة والسياسة. البرازيل كانت نموذجا وعادت لنفس النموذج. دائما أبدا أسأل ودائما أبدا أسمع أن الجيش البرازيلى يستعد لتولى السلطة، فالفوضى ضاربه والفساد مهيمن ومنظمات الجريمة هى التى تحكم قرى أو مدنا أو تسيطر على مساحات بعضها يزيد عن مساحة المملكة المتحدة أو إيطاليا. ليس سرا أو خبرا غير معلن أن للجيش دورا فى خطة تشويه سمعة الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا وضرب قاعدته الشعبية، وللجيش يد فى اختيار السنيور بولسونارو كمرشح فى انتخابات الرئاسة، ويد أخرى فى النتائج التى حصل عليها. ربما يكون انتخابه البديل الأخير لتدخل سافر من الجيش البرازيلى يعقبه، وكلنا شهود من التاريخ القريب، انقلابات عسكرية فى عدد غير قليل من دول القارة. الفساد فى البرازيل عاد يعمى الأبصار ويتحدى الكنيسة، وهى على كل حال، فاقدة معظم رعيتها. فقدت الرعية خلال المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية. فقدتها حين اعتنقت نسبة كبيرة من الكاثوليك البروتستنتية الإنجيلية، وبخاصة الفرع الذى زين لدونالد ترامب حكم أمريكا وتاج مملكة بيت المقدس الممتدة حسب مشروع شهير عرف بصفقة القرن لا تكاد العين تراه إلا ويختفى ليعود فيظهر فى عاصمة أو أخرى ويختفى.

***
يتصاعد العصيان ضد الولايات المتحدة. بوليفيا لا تزال تعارض سياسات أمريكا فى القارة الجنوبية وتدين مواقفها من فلسطين. وفنزويلا صامدة فى مواجهة الولايات المتحدة التى استطاعت كسب تأييد أكثر من خمسين دولة ضد حكومة الرئيس مادورو وتدعم مرشح واشنطن وتعترف به رئيسا. تعترف به اعترافا مؤجلا ومرتبطا بواقع تسلّمه السلطة الفعلية. فنزويلا نموذج مهم للسياسة الخارجية الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب. ليست النموذج الوحيد فالسياسة الأمريكية تجاه روسيا نموذج آخر وكذلك السياسات تجاه سوريا وكوريا والسودان وإيران كلها نماذج لسياسة تجويع الشعوب لإخضاع الخصوم. أهمية النموذج الفنزويلى تكمن فى وحشيته منذ أن ركز الحصار على الغذاء والدواء. لم يتدخل ترامب عسكريا ولكنه ربما أراد اختبار هذا النموذج كأداة أشد عنفا وقسوة من الحرب يرهب بها شعوب أمريكا اللاتينية وأغلبها غاضب وربما لأنه، وأقصد ترامب، لا يريد الدخول فى حروب خارجية استنكرها بنفسه خلال حملته الانتخابية. المؤكد على كل حال أن المؤسسة العسكرية الأمريكية لها رأى يقضى بعدم التدخل عسكريا فى فنزويلا متأثرة بتهديدات كل من الصين وروسيا. نعرف الآن أن تقارير موثوق بمصادرها أفادت بأن منظمة «فارك» التى حاربت لسنوات عديدة جيش حكومة كولومبيا وقوات أمريكية غير نظامية هددت بأن تعود قواتها إلى الغابات لاستئناف القتال لو وقع اعتداء عسكرى مباشر على دولة فنزويلا.

***
نعلم، ولكن ليس بعلم اليقين، أن فيروسا ما أصاب الرأى العام العالمى فأقعده ربما إلى أجل غير مسمى. تشاء الظروف ولعلها الأقدار أن يرتاح رؤساء أعظم الدول المتنافسة على مقاعد القمة الدولية إلى مفهوم جديد فى الممارسة السياسية، ألا وهو مفهوم عصر «الرجال الأقوياء» أكان ترامب صاحب هذا المفهوم وأول من أطلقه أم كان فلاديمير بوتين أم أن ممارسات الصين السياسية مع عشرات الدول الواقعة على طريقى الحرير والحزام هى التى أوحت لقادة الحزب الشيوعى الصينى بالاستفادة من هذا المفهوم مجددا وإعادة تلميعه ليليق بمقومات عصر جديد فى ساحات التنافس الدولى. الجدير بالذكر هنا أن الزعماء الثلاثة وعدد من زعماء الصف الثانى مثل أنجيلا ميركل لم يبد واحد منهم مرة واحدة اهتمامه باللون الأيديولوجى لرجل من هؤلاء الرجال الأقوياء الذين يحكمون دولة أو أخرى فى أمريكا الجنوبية أو فى إفريقيا أو فى الهند والفلبين وتايلاند وحيثما وجدوا فى الشرق الأوسط. المؤسسات، وجودها مثل عدمها، فى تقدير ترامب وزميليه لمكانة أى دولة وقدرتها على تنفيذ التزاماتها وسداد أقساط وفوائد ما استدانت من قروض. وهى، وأقصد المؤسسات، صار مثلها على كل حال مثل الرأى العام كالصلصال يشكلونه على هواهم باستخدام أحدث التكنولوجيات. هم الآن يشكلون رأيك ورأيى ورأى شعوب عديدة.
***
ما زلت لم أقرر إن كان دونالد ترامب منشئ مرحلة تاريخية أم هو صنيعتها وإحدى أدواتها. لا شىء من أفعاله يقطع بإجابة حاسمة. يتساوى كرهه للقانون ومقته للقانون الدولى والمؤسسات الأممية مع كره ومقت معظم من صاروا يحملون اسم الرجال الأقوياء، كما لو كنا نعيش مرحلة تستدعى حتما وبالضرورة صفات استثنائية ومتجاوزة القوانين. كلهم، بدون استثناء، يخشون من قوة ومفعول التكنولوجيا الحديثة وشركاتها التى سيطرت فعلا ثم هيمنت. كلهم، أو أغلبهم، يعلمون أن مصيرهم فى الحكم مرتبط بحصيلة علاقتهم بهذه التكنولوجيا، مثل عدد الوظائف الملغاة ووظائف لا تجد من يشغلها ومثل نوع التعليم والمعلمين ومثل كفاءة المجتمع الجاهز لاستقبال إبداعات الذكاء الاصطناعى.
كلهم، أو أغلبهم، قلقون. ومن شدته انتقل القلق إلى شعوبهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved