نهجان في العمل السياسي

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

فى عالم ممارسة السياسة هناك اتجاهان فى منهجية تلك الممارسة. فقبل السقوط المدوى لمنظومة الاتحاد السوفيتى، ومعه تراجعت الأيديولوجيات الكبرى تراجعا هائلا وحاسما، طرح البعض توجها جديدا مفاده أن أفضل طريقة فى العمل السياسى، هى اقتصارها على الاحتجاجات المحلية السلمية المتقطعة، وتركيز شعارات تلك الاحتجاجات على مواضيع محددة مثل المساواة بين الجنسين أو حماية بحيرة من التلوث الكيميائى أو زيادة أجور العمال العاملين فى شركة صناعية محددة.

الصفات الأساسية فى ذلك النهج المقترح، إذن، هى أولا أن تكون فى صورة احتجاجات شبه عفوية غير مرتبطة بنظرة سياسية شمولية ولا بنظرة أيديولوجية محددة، وتقودها عدة قيادات متفاهمة بدلا من قيادة واحدة ملتزمة بفكر واحد. وهى ثانيا أن تطرح شعارات قطاعية لحل إشكالية مجتمعية واحدة بدلا من طرح تلك الإشكالية ضمن استراتيجية سياسية شاملة تسعى لإحداث تغييرات كبرى جذرية فى المجتمع.

لقد تزامن ذلك الطرح المبسط للعمل السياسى، إلى حد إلغاء المنظم منه، مع انتشار الإحباط واليأس بين المفكرين والقادة اليساريين بسبب الممارسات التسلطية والغياب الكامل للحريات فى بلدان مثل الاتحاد السوفييتى والصين وغيرهما من حاملى شعارات الأيديولوجية الماركسية، بأشكالها المتعددة والمنقسمة على نفسها.

كما ترافق مع طرح وانتشار ثرثرات الفلسفات النظرية البحتة، مثل الفلسفة البنيوية فى فرنسا، أو فلسفة ما بعد الحداثة التى بدأت فى إنجلترا وأمريكا ثم انتشرت.

***
إن فيلسوفا بنيويا بارزا مثل الفرنسى فوكو أوصلته براءته الطفولية السياسية إلى الاعتقاد بأن أهم ما نحتاجه فى الحياة السياسية هو توسيع وتعميق الوعى السياسى لدى الأفراد والجماعات، وأن ذلك سيؤدى إلى أن يقوم الناس، باستقلالية عن التنظيم، بحل مشاكلهم السياسية والاجتماعية. كانت لديه شكوك بشأن ضرورة وجود قيادات تجيش وتقود أو ضرورة وجود استراتيجيات سياسية كبرى تتوجه إلى حل كل المشاكل فى الوقت نفسه.

وصبت فى الاتجاه نفسه أطروحات ما بعد الحداثة، المركزة على نسبية كل شيء، الرافضة لوجود أية حقيقة مطلقة، المهاجمة بعنف لحقل العلوم واستنتاجاته، المسلعة للمعرفة، الطارحة لشعارات فخفخة نظرية مبهمة شبه سرية لا علاقة لها بواقع الحياة ومتغيرة بصور سريعة جنونية، وبالتالى غير مهتمة بإحداث تغييرات كبرى فى الواقع الاجتماعى.

وهكذا تهيأت الأجواء لطرح الشعارات النيوليبرالية الرأسمالية العولمية المتجهة نحو تشيئ وتسليع كل شيء، نحو فردية تقترب من محو فكرة العائلة وكل أنواع الاجتماع البشرى، نحو استهلاك مبتذل لكل شيء، نحو إضعاف لمسئوليات الدولة الاجتماعية، نحو قبول هيمنة اقتصادية لبضع شركات وأفراد، نحو تدمير ممنهج للبيئة، نحو صعود قيادات سياسية شعبوية بهلوانية تقود ملايين ضائعة غاضبة عنصرية، نحو تهميش لكل ما هو جدى وإعلاء لكل ما هو سطحى ترفيهى، نحو نظام تعليمى فى شكل مصانع تنتج يدا عاملة تحتاجها الأسواق، ولا دخل لها بحاجات المجتمعات الإنسانية والقيمية والروحية.

تلك هى ملامح النهج الأول المقترح والذى يزداد الترويج له بصورة مذهلة من قبل إعلام تجارى نفعى أو إعلام حكومى مستفيد من ذلك التمزق المجتمعى، ومن قبل كتاب ومغردين انتهازيين مدفوعى الأجر بسخاء لتدمير كل ما هو سياسى جدى منظم.

أما النهج الثانى الذى يحاول أن ينهض فى وجه ذلك الطوفان من التشكيك والكذب، فهو النهج القائل بأن العمل السياسى يجب أن تقوم به مؤسسات مدنية منظمة، حاملة لاستراتيجيات سياسية شاملة ومترابطة مع كل حاجات المجتمع الحياتية، لها قيادات تفكر وتثقف وتجيش وتقود بحكمة وعقلانية والتزام أخلاقى نحو المجتمعات والبشر.

ذلك هو نفس النهج الذى طرح منذ بدايات القرن العشرين بصورة خاصة، مع تعديلات جوهرية فى الفكر والمنهج والوسائل من خلال نقد موضوعى صادق لكل أخطاء الماضى من رجالاته وأحزابه وسياساته وأوهامه.

إنه نهج يتعايش مع فكرة الاحتجاجات شرط أن تكون ضمن استراتيجية كبيرة وشرط أن تكون متناسقة مع كل مكونات تلك الاستراتيجية الأخرى.

إنه نهج يؤمن بضرورة وجود قيادات تاريخية لكتل تاريخية تقوم مكوناتها السياسية لا على أسس انتهازية مصلحية مؤقته وإنما على أسس توافق على مبادئ وأهداف وأساليب عمل نضالية مستمرة غير موسمية وغير مكتفية بالعمل المحلى والشعارات الجزئية.

لو فتشنا عمن كتب عن تفاصيل ذلك التوجه فى ثلاثينيات القرن الماضى لكان المفكر السياسى الإيطالى غرامشى فى مذكراته التى كتبها فى السجن.

لنعد إلى ما يهمنا بالدرجة الأولى بالنسبة لهذا الموضوع: نهج العمل السياسى فى الوطن العربى. منذ عشر سنوات والوطن العربى يزخر بحراكات سياسية كبرى، وسيستمر فى نهجه هذا لسنين طويلة قادمة. ذلك أن الأخطار الهائلة التى تحيط بهذا الوطن، ومقدار التخلف التاريخى الذى وصلت إليه الأمة، والحاجة الماسة لإحداث تغييرات كبرى فى حياة الوطن والأمة، تحتم أن يختار شباب وشابات الحاضر والمستقبل نهجا فى العمل السياسى فاعلا فى الواقع، مستمرا فى الزمن، قوميا فى المساحة الجغرافية والسكانية، تاريخيا فى مكوناته، ديمقراطيا فى كل خطواته، قيميا فى كل ما يتوجه إليه.

الحق واضح والباطل واضح، وعليهم الاختيار، بالرغم من كل الغبار والضجيج وثرثرات المتفرجين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved