حماية الكلاب من الآداب!

كارولين كامل
كارولين كامل

آخر تحديث: الإثنين 12 يونيو 2023 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

«نشط مكتب حماية الآداب فى هذه الأيام نشاطا ملموسا رأينا أثره فى تعقب المارقين عن حدود الآداب العامة، والكلاب الضالة التى تنبح السابلين وتنهش بألسنتها وتغشى المحافل فى صفاقة لتعكر صفوها وتنفث سمومها.. ورأينا العيون الراصدة تطهر الشوارع من هذه المخازى التى يمثلها المستهترون فى قحة وتبذل وتحلل من الرجولة».
فقرة من خبر فى الصفحة الثانية من جريدة «المقطم» عدد ١٥ فبراير ١٩٥١، التى صدر عددها الأول عام ١٨٨٨، اشتريتها من سوق «ديانا» منذ عدة أسابيع، وعلى الرغم من محتوياتها المثيرة، لم أعاود مطالعتها حتى دار نقاش بينى وبين عدد من الصديقات عن أحدث الطرق التى لمست كل منا فاعليتها فى تقليل تعرضها للتحرش.
كان أحدها التعامل مع كل متحرش محتمل بالطريقة ذاتها التى نتعامل فيها مع السيطرة على خوف البعض الغريزى من الكلاب فى الشارع (مع الاعتذار للكلاب)، بالسيطرة على تلك المشاعر فيبدو لهم كم نحن واثقات ولدينا ما ندافع به عن أنفسنا، نظرية رائحة الخوف، وادعاء القوة والثقة، بينما دقات قلوبنا تتسارع وتفلت بعضها من الخوف المكبوت.
لا أخاف من كلاب الشارع، فالبشر يمثلون الخطر الحقيقى، اضطررت أن أنزل من التاكسى قبل الوصول إلى وجهتى بمنطقة وسط البلد، وكنت ارتدى فستانا قصيرا وشالا على اكتافى، فلم يكن السير بسرعة ممكنا، فسرت ببطء فى خطوات متحجرة، التجهم على ملامحى مُضاعف بفعل التوتر، بالإضافة إلى تلك النظرة التى تنم عن ضيق الخلق، معلنة استنفارا للانقضاض والدفاع عن نفسى حال تعرض لى أحدهم.
وصلت إلى وجهتى بصداع نصفى حاد بسبب التوتر، واكتشفت إنى لم أتعرض إلى مقدار العنف اللفظى ذاته الذى اعتدت عليه، أو هكذا تخيلت ربما لانشغالى بمخاوفى، وفى العموم وصلنى بعض التعليقات بخصوص شكلى باللغة الإنجليزية وأظن الإسبانية، ويبدو أن الرجال ظنوا أنى أجنبية طالما أسير بهذه الملابس والثقة فى الشارع، للأسف الأمان النسبى فى شوارع مصر مرهون بخوف المتحرشين مما لدى الضحية من دعم، وجواز السفر الأجنبى يحد من جرأتهم.
ملابس النساء ليست السبب فى العنف ضدهن، لأن الكود المجتمعى تجاه الملابس مُتغير، ولكن ما هو ثابت هو موقفه من النساء، ملتزم بتجريم وجودهن فى الحياة ذاتها، لستُ بحاجة إلى ترديد هذه العبارات لكن مضطرة ليتضح السياق أكثر عندما أقول واتتنى الشجاعة وكررت التجربة، بملابس مشابهة، كانت تُشكل المظهر العام لشريحة كبيرة من النساء فى مصر واختفت (مع اللى اختفوا)، وحل محلها ملابس غريبة مشوهة.
رائحة خوفنا تفضحنا أحيانا، وتنفعل بسببها بعض الكلاب، رد فعل غريزى، ولكنها لا تؤدى إلا إلى تجمهرهم وركضهم العشوائى ونباح دون هجوم حقيقى، ولكن خوفنا يشتمه المتحرشون وهو ما يعتبرونه تحديا أكبر لممارسة العنف وإثبات شىء ما لذواتهم، وبالتالى تجربتى تخصنى وحدى، ولا أشجع أى فتاة أن تفعل مثلما أفعل، فأنا شخصيا أعتمدها فى منطقة واحدة وهى وسط البلد، وعلى فترات متباعدة، وبدون جواز سفر أجنبى، فأنا مجرد مصرية.
• • •
كلامنا عن المتحرشين وشم رائحة الخوف هو ما أعاد إلى ذهنى الخبر فى جريدة المقطم، لأنى لم أكن قد قرأته بالكامل، ولكن رسخ فى ذهنى حينها أن مكتب حماية الآداب كان معنيا أيضا بمكافحة وجود الكلاب فى الشوارع، تصور ساذج بالطبع، ولكن ربما أحببت عبثيته فى ذهنى.
قرأته بالكامل اكتشفت أن الكلاب المقصودة فى الخبر هم بعض الفئات من البشر مثل «العاملات بالجنس» وكل من يخرجون على الآداب العامة دون توضيح ماهية هذه الآداب، ولكن كاتب الخبر أسهب فى الحديث مستخدما أوصاف مثل «مصر قلعة الأخلاق»، و«إعمال سلطة القانون»، و«مصر الإسلامية».
ودعا إلى القبض على من يجنحون عن الآداب العامة، وعدم الاكتفاء بفرض الغرامات عليهم، بل إلقائهم فى غياهب السجون حتى يذوقوا ظلماتها، بالإضافة إلى تكرار استخدام لفظ الكلاب لوصف هؤلاء، وانتهى الخبر بطلب واضح من وزير المالية وهو حاجة مكتب حماية الآداب إلى تزويده بالمال والرجال لاستئصال الشر من شوارعنا.
سخرت من نفسى بعد أن انتهيت من قراءة الخبر، ونفرت من استسهال استخدام الحيوانات كسبة، وكأن الأفعال المخلة والجرائم الذى يأتى بها البشر وتستوجب العقاب أو الوصم مستمدة من سلوكيات مشابهة لدى الحيوانات.
لم نرَ عشيرة من الكلاب نهش فيها الأغنياء والمتنطعون حقوق الفقراء، فلجأت إناثهم إلى بيع أجسادهن لإطعام الأفواه، أفواه الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة، وإطعام وتوفير علب الدخان لذكور عالة لا نخوة لديهم، ولم نضطر إلى فض مشاجرة بين كلب بلدى مرقط وآخر سادة، سب كل منهما سلالة الآخر.
ما بين عام ١٩٥١ وعام ٢٠٢٣ هوة ساحقة فى كل شىء، المشكلات والتحديات اختلفت، العاملات بالجنس كن يعكرن صفو الشارع المصرى كما يدعى كاتب الخبر، اليوم تحرش واغتصاب وذبح وقتل النساء، جرائم تُرتكب على مرأى ومسمع من الجميع، وتجد من يدافع عنها.
ومن جهة أخرى، بالحديث عن التحضر والنفس السوية، فالحيوانات بالشارع لم تسلم من أذى البشر، مشاهد تُدمى القلب يمارسها بعض المصريين ويتبادلون مقاطع الفيديو والصور، احتفال بالتعذيب مرفق بالتهانى والتشجيع، ويتبجح البعض ويشكون وجود هذه الكائنات ويشجع اقتناص حقهم فى الحياة الذى لا يقل فى الحقيقة أهمية عن حياتنا ذاتها.
وعلى مستوى البشر مرة أخرى يمكن أن يتعطل كوبرى لأن قائد المركبة قرر أن يتوقف لـ «فك زنقة»، أو أن تلتصق بصقة من فم راكب أتوبيس قرر إلقاءها على المارة، سلوكيات حدث ولا حرج فظة ومقززة يختص بها الرجال وحدهم، يفعلونها على الملأ دون حرج وفى عز النهار.
الاستغاثة بوزير المالية كان غرض خبر جريدة المقطم فى عام ١٩٥١، لتوفير الرجال والمال لمكتب حماية الآداب، حتى تعود مصر إلى صورتها البهية، ولكن هل يكفى أن نستغيث الآن بوزير المالية لتحقيق معادلة شارع مساحة مشتركة آمنة للجميع خاصة النساء والأطفال والكلاب؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved