مسيرة عمران مصر: من إهدار الموارد إلى الفساد

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 12 يوليه 2010 - 12:57 م بتوقيت القاهرة

 يتملك المرء العجب من الأسلوب الذى يتبعه كتاب الحزب الوطنى الحاكم فى الرد على الانتقادات الموجهة إلى سياسات حكومات الحزب المتعاقبة سواء تعلق الأمر بالسياسات الخارجية أو الداخلية، فهم يفسرون هذه الانتقادات على هواهم، باعتبارهم أهل المعرفة الصحيحة والواقعية، والجديرون وحدهم بأن يؤتمنوا على مصير الوطن.

والأمثلة عديدة على هذا الأسلوب فى المحاجة، فإذا قال قائل بأنه ينبغى أن تتوقف الحكومة المصرية عن الاستجابة السهلة والسريعة لمطالب إسرائيل فى التعامل مع حكومة حماس فى غزة، كان الرد وهل تريدون محاربة إسرائيل؟، وإذا قيل لهم أن السياسة الاقتصادية يجب أن تتسم ببعض التعقل عندما يتعلق الأمر مثلا ببيع مؤسسات القطاع العام، يكون الرد وهل تريدون العودة إلى عصر الـتأميمات وإلغاء دور القطاع الخاص، وعندما يقال لهم إن مصر بحاجة إلى انتقالة جادة على طريق التحول الديمقراطى، قيل لنا وهل تريدون أن تعرف مصر الفوضى والحرب الأهلية مثل تلك التى شهدتها الجزائر فى التسعينيات. وهكذا يجرى عبر صفحات الجرائد اليومية والأسبوعية المملوكة اسما للشعب والناطقة فعلا باسم الحزب الحاكم اختزال النقاش العام إلى طرفين أحدهما عاقل مسئول والآخر عابث بمصالح الشعب وجاهل مطلق.

وآخر نموذج لهذا الأسلوب فى ادعاء الانتصار على خصوم متوهمين هو دفاع العديد من الكتاب فى الصحف الحكومية وتلك التى تدعى الاستقلال عن وقائع الفساد فى تخصيص الأراضى لصالح حفنة من الشركات بعضها يملكها وزراء فى الحكومة وأخرى تملكها شخصيات نافذة فى الحزب الوطنى. فهؤلاء المنتفعون من هذا التخصيص، والذى اقتضى تدخل رئيس الدولة شخصيا لإلغاء عقد بيع جزيرة آمون فى نيل أسوان بثمن بخس لم يجر حتى تحصيله،

ويمر فى حالة ثانية بنزاع قضائى تدافع فيه الحكومة عن منحها مساحات واسعة من الأراضى مجانا وتحملها نفقات مد المرافق الرئيسية فى مقابل حصولها على عدد من الوحدات السكنية تقدر ب 7% من إجمالى وحدات المشروع، وبالثمن الذى تحدده الشركة المحظوظة التى حصلت على هذه الأرض مجانا.. الكتاب الحكوميون ومدعو الاستقلال فى صحف خاصة خرجوا علينا بتصوير هؤلاء المنتفعين من هذه الأساليب على أنهم رواد العمران فى أرض مصر، وأن ناقدى مثل هذه الصفقات إنما يريدون أن تبقى مصر خرابة بلا مارينا ولا المنتجعات المسورة فى القاهرة الجديدة و6 أكتوبر وغيرها. فما هى الحقيقة؟، وهل صحيح أن ناقدى هذه الصفقات والسياسات لا يريدون لمصر سوى الخراب.

الحقيقة التى يقرها كل المتخصصين فى موضوعات العمران، أن سياسات العمران هذه بدأت بإهدار هائل لموارد ضرورية ونادرة، وانتهت إلى وقائع فساد تنظر المحاكم بعض تجلياته فى الوقت الحاضر، وسنضرب ثلاثة أمثلة على الخسارة الهائلة للاقتصاد والمجتمع فى مصر نتيجة هذه السياسات. تعمير الساحل الشمالى وساحل البحر الأحمر، وتعمير سيناء. وأخيرا المدن الجديدة.

أولا: إهدار الموارد فى تشييد كتل خرسانية بامتداد الساحل الشمالى يزورها المصريون شهرين فى السنة

لا يتوافر لدى الكاتب تقدير كامل لمدى الخسارة التى يتحملها الاقتصاد القومى بسبب تشييد تلك الكتل الخرسانية، ولكنها لن تقل عن عشرات المليارات من الدولارات أهدرت فى بناء ما يسمى بالقرى السياحية التى يرتادها المصريون لمدة لا تتجاوز شهرين فى العام، وتبقى لمدة عشرة أشهر خاوية مهجورة. وللعلم كان هناك مشروع متكامل للتعمير الشامل للساحل الشمالى أعدته شركة هولندية وكان يوصى بمد المياه إلى مناطق الساحل الشمالى واستزراع مساحات واسعة من أراضى الصحراء لتكون نواة لمجتمعات جديدة يمكن أن تستفيد من وجود خدمات على امتداد الشاطئ تسمح لأسر هذه المجتمعات بأن تصطاف فيها، وتتلقى أى مشروعات من هذا النوع حاجاتها من هذه المجتمعات. ولكن ضاع هذا المخطط الذى أعدته الشركة الهولندية بناء على طلب الحكومة المصرية فى فترة تولى المهندس حسب الله الكفراوى للمسئولية عن التعمير، وشقت الترعة ولكنها مازالت جافة يراها المسافرون إلى الساحل الشمالى عبر الطريق المختصر الذى يربطه بطريق القاهرة ــ الإسكندرية الصحراوى، ولم تظهر هذه المجتمعات العمرانية، وإنما شيد على امتداد الساحل الشمالى ما يسمى بقرى سياحية، وهى ليست سياحية فى أى شىء حيث إن كل روادها باستثناءات محدودة للغاية هم من المصريين الذين اشتروا وحدات فيها لأغراض التفاخر الاجتماعى الكاذب أولا وكنوع من الاستثمار ثانيا لعدم وجود فرص أخرى.

وبدلا من أن يكون مشروع تعمير الساحل الشمالى تخفيفا للعبء عن الدلتا والوادى، أصبح هو عبء عليهما حيث إن الذين يذهبون إليه لبضعة أسابيع فى السنة يعتمدون اعتمادا شبه كلى فى طعامهم وشرابهم على ما يأتى منهما. ماذا كان سيكون عليه حال مصر لو كان مخطط الشركة الهولندية قد اتبع وأنتج هذه المجتمعات المتكاملة، أو كانت عشرات المليارات من الدولارات التى أنفقت على بناء هذه الكتل الخرسانية قد وجهت إلى إحداث تنمية زراعية وصناعية فيها؟

وعلى الرغم من أن تعمير ساحل البحر الأحمر كان أسعد حظا إذ استهدف بالفعل إقامة قرى سياحية بالمعنى الصحيح، وهو مع مشروعات مماثلة فى جنوب سيناء يجتذب ملايين من السياح سنويا. ولكن لابد من التذكرة بأنه كان هناك مشروع مماثل لما اقترحته الشركة الهولندية جرى صرف النظر عنه، ومن ثم اقتصر تعمير ساحل البحر الأحمر وجنوب سيناء على تعمير الشاطئ، وترك المساحات الواسعة غربه أو شماله دون أن تلمسها يد المخطط بعيد النظر، ثم ظهرت فيها أعراض الساحل الشمالى من اتجاه المصريين لتملك وحدات سكنية ثانوية يزورونها بضعة أسابيع فى السنة. وهو نمط لا تعرفه الدول المتقدمة عالية الثراء، ولكننا، ونحن مجتمع يعانى الفقر فيه ستة عشر مليونا من سكانه بحسب الإحصاءات الرسمية نعرف هذا النمط، ويفخر كتاب الحزب الوطنى به باعتباره تعميرا.

ثانيا: المشروع القومى لتعمير سيناء

ولا تقتصر مسئوليات الحكومات المتعاقبة للحزب الوطنى على التعمير المشوه الذى أحدثته والذى يصعب التخلص من آثاره فى استمرار هدر الموارد وضياع الفرص فى استثمار جاد يعود على الاقتصاد الوطنى ببعض النفع، ولكنها تمتد إلى تخليها رسميا عن مشروعات تعمير حقيقية ذات أهمية إستراتيجية يتطلبها الدفاع عن هذا الوطن.

أذكر القارئ بأنه كان هناك مشروع قومى لتعمير سيناء، زراعيا وصناعيا وخدميا، وتضمن إقامة مجتمعات متكاملة فى أنحاء متفرقة فيها، واجتذاب ملايين من المصريين للإقامة فى قرى ومدن فيها ليشكلوا حاجزا بشريا للدفاع عنها فى مواجهة الأفكار الجامحة التى يخرج بها ساسة إسرائيل من حين لآخر. بل وقد بدأ تنفيذ هذا المشروع، ولكن توقفت الحكومة عمليا عن اعتماد مخصصات كافية له، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، ولكن هذا التوقف بدأ منذ أوائل التسعينيات.

بطبيعة الحال سنقرأ كل أبريل دعوات لاستئناف هذا المشروع، ولكنها دعوات لا يستجيب لها صانعو القرار فى هذا البلد، ولأسباب لا يريدون الإفصاح عنها، وحتى عندما يقررون تنفيذ واحد من الأفكار الصحيحة فى هذا المشروع، فإنهم يلحقون بها من التغيير ما يفقدها فائدتها، مثل تغيير مسار ترعة السلام، فتعبر أسفل قناة السويس لتصب فى منطقة مرتفعة، مما يزيد فى تكلفة الرى منها على عكس المسار الأصلى، ومما يشكو منه مزارعو سيناء فى الوقت الحاضر.

وهكذا بدلا من أن تصبح سيناء فى شمالها ووسطها كما فى جنوبها موطن مجتمع فاعل وكبير وجاذب، أصبحت فى الشمال والوسط منطقة طاردة، تعمر بنقاط التفتيش، ومعمل للفكر الحكيم لوزارة الداخلية التى كادت تنجح فى تحويل سكان سيناء الذين لم يعرف عنهم سوى الولاء الشديد للوطن، إلى مصدر مشكلة أمنية وبمئات من مواطنيها فى غياهب السجون معتقلين بلا اتهام ولا محاكمة، ويزيد عددهم فى بعض الحالات إلى بضعة آلاف وفقا لتقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان.

ثالثا: حكاية المدن الجديدة التى لا تحل لا مشاكل السكن ولا المواصلات


وأخيرا هناك قصة المدن الجديدة التى تتنافى مع كل مبادئ التخطيط العمرانى السليم. والهدف المرتجى من إقامة هذه المدن هو تخفيف الزحام عن العاصمة والمدن الكبرى. وهذا يقتضى منطقيا أن تعتمد هذه المدن على إمكاناتها الذاتية البشرية أولا والزراعية والصناعية والخدمية ثانيا. وهذا الهدف لم يتحقق إطلاقا. ما هى أكثر الطرق الخارجة من القاهرة ازدحاما صباحا ومساء.

أليست هى الطرق الموصلة إلى السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان؟. وما هو السبب فى ذلك؟. القصة معروفة. كثيرون ممن يعملون أو يحتاجون الذهاب يوميا إلى أى من هاتين المدينتين لا يقيم أصلا فيهما بل ولا يمكنه الإقامة فيهما. وأظن أن سبب ذلك واضح وجلى. لو كان لدى هؤلاء العمال والعاملين مسكن رخيص بجانب مكان العمل لكانوا أكثر انتظاما فى عملهم وأكثر حرصا عليه.

هل التعمير ممكن بدون فساد؟


الاستنتاج الذى يدعونا كتاب الصحف الحكومية وأنصار الحكومة فى الصحف الخاصة إليه هو إما أن نقبل ممارسات الفساد فى جزيرة آمون وأرض ميدان التحرير ومشروع مدينتى وغيرها أو لا يكون هناك تعمير فى مصر. وأظن أن تلك حجة سخيفة.

التعمير مطلوب، ولكنه يجب أن يكون تعميرا رشيدا يسهم فى حل مشاكل هذا الوطن من دفع الاستثمار الجاد، وتنويع هياكل الاقتصاد، وتوفير العمالة والسكن للملايين من المصريين. وللأسف فقد أوضحت الأمثلة المذكورة هنا أن ما جرى باسم التعمير فى مصر كان ضارا ومضيعا لفرص التنمية الحقيقية ومهدرا للموارد، وفوق ذلك كله اقترن بقصص فساد تقشعر لها الأبدان، ولكن صداها لا يصل إلى أسماع كبار المفكرين فى الحزب الوطنى الديمقراطى.
أستاذ العلوم السياسية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved