لبنان.. تشابك السياسى والاقتصادى فى الأزمة

رابحة سيف علام
رابحة سيف علام

آخر تحديث: الأحد 12 يوليه 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

كانت احتجاجات 17 أكتوبر الماضى فى لبنان علامة لا لبس فيها على فقدان مصداقية الطبقة السياسية الحاكمة فى أعين المواطنين. ورغم استقالة حكومة الحريرى وتنصيب حكومة أخرى مطلع العام، فإن مقدار الثقة لم يزد بين الشارع والحكومة الجديدة. فالانطباع العام فى الشارع أن الحكومة الجديدة هى من ذات النخبة التى ثار عليها ولكنها كوادر من الصف الثانى والثالث. إذ طالب الشارع بحكومة تكنوقراط ومتخصصين بهدف القطيعة مع الأسلوب المتراكم من توزيع المكاسب بين النخبة، بدلا من صنع سياسات تعود بالنفع على الشعب ككل دون محاصصات طائفية. من جهة ثانية تفسخ التحالف الذى أسس للعهد الرئاسى الحالى بين الرئيس عون والرئيس السابق للحكومة سعد الحريرى، فعادت المواقف إلى سابق عهدها من اصطفاف بين فريق 8 آذار وفريق 14 آذار الذى ولد من رحم أزمة عام 2005 عقب اغتيال رفيق الحريرى.
ومن ثم فأصبح الصراع السياسى الآن ينقسم إلى ثلاث جبهات، جبهة 8 آذار من الموالين للرئيس عون وحزب الله وحركة أمل المقربين من سوريا وإيران، ثم جبهة 14 آذار التى تضم تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب وغيرها من القوى المحبذة لسياسة الحياد المسماة «النأى بالنفس»، أو عدم الانخراط فى تعاون مع سوريا قد يكلف لبنان تداعيات اقتصادية وأمنية خطيرة. أما الجبهة الثالثة التى تحاول أن تبقى بعيدة عن مسار 8 و14 آذار فهى الجبهة التى أعلنت عن نفسها من رحم انتفاضة أكتوبر الماضى وتضم مجموعات من منظمات المجتمع المدنى المستقل ذات مطالب معيشية وسياسية داخلية تتعلق بإصلاح السياسات العامة ونبذ الطائفية. لكن هذه الجبهة لا تزال بلا قيادة موحدة أو هياكل مستقرة، وتخضع أجندتها للكثير من التنازع بين مطالب ذات طبيعة سياسية مثل سيادة القانون وحصر السلاح بيد الدولة فقط (أى ضد حزب الله) أو الاقتصار على المطالب المعيشية والإصلاحية دون الدخول فى مطالب تفرق الجمع وتؤدى إلى تخوين الانتفاضة ووصمها بأنها تحركات تحريضية من جهات خارجية.
***
إذن فالثقة مفقودة بين فريقى الطبقة السياسية وهى كذلك مفقودة بينهم وبين الشارع الغاضب، ولكنها أيضا مفقودة فى السياسات المالية التى أنتجت هذه الأزمة. فلا ثقة فى سياسة الاقتراض الدائم على مدار ثلاثة عقود حتى صار كل قرض جديد يُمول سداد القروض التى سبقته. وإذا كان ذلك مشروعا بعد حرب طويلة بهدف إعادة الإعمار، فإن الاستمرار فيه أدى بلبنان إلى مصاف الدول الأكثر استدانة فى العالم نسبةً لعدد سكانها. ولكن ربما الخطأ الأفدح كان إقراض المصارف المحلية للدولة من المدخرات الدولارية للمودعين بما جعل هذه الأخيرة شبه وهمية ولم يعد المودعون قادرين على استرجاعها، فصار الإفلاس شبحا يُخيم على لبنان على مستوى الدولة وأيضا على المستوى الفردى للمواطنين العاديين. وهكذا فسلسلة فقدان الثقة تغذى بعضها بعضا، والسياسى يتداخل مع الاقتصادى فيفسده ويعرقل طرق حله. فالفساد المالى الذى يشوب الجهاز الإدارى اللبنانى ويعيق إعادة الثقة فيه من جانب الممولين والمقرضين الدوليين ما كان له أن يستمر لولا الغطاء السياسى الذى يحظى به ويمنع يد القضاء من الوصول إليه وتعقبه. كما أن إنكار النخبة السياسية مسئوليتها عن الأزمة هو الذى يغذى المزايدات وتقاذف الاتهامات فيما بينهم بدلا من البحث عن حلول من خارج الصندوق الفاسد الذى خرجت منه سياسات الأزمة الراهنة.
وبالمثل فإن هشاشة قدرة الدولة وعجزها عن بسط سيطرتها على جميع أراضيها وخاصة المعابر الحدودية غير الشرعية يؤدى إلى المزيد من الهدر المالى. فالمعابر غير الشرعية كانت محل تساهل من الدولة فيما مضى من أجل تدعيم ترسانة حزب الله فى معادلة الردع ضد العدو الإسرائيلى المتربص. غير أن اليوم هذه المعابر تستخدم بغطاء سياسى واضح من أجل تهريب المواد الغذائية والمحروقات ــ الشحيحة أصلا فى لبنان ــ إلى سوريا لحساب أفراد وكيانات خاصة تتربح من هذا التهريب. وكذلك يتجلى عجز الدولة اللبنانية عن وقف الهدر المالى بسبب هذه المعابر عندما يصبح التهريب فى الاتجاه المعاكس، إذ تدخل بضائع سورية إلى لبنان دون أن تتحمل ما يتوجب عليها من رسوم جمركية ليعاد تصديرها للخارج لحساب النظام السورى متمكنة بذلك من الإفلات من العقوبات المفروضة على هذا الأخير. وبالتالى فهذا النشاط المشبوه لا يخضع للضرائب ولا للجمارك بل يكلف الدولة اللبنانية مبالغ باهظة مرتين، مرة عند سرقة المواد الأساسية لتهريبها عبر الحدود ومرة عند عدم تحصيل الجمارك عليها.
يتداخل أيضا العاملان السياسى والاقتصادى فى إجراءات الحد من السحب البنكى التى أقرها مصرف لبنان، فهذه الإجراءات اقتصرت فقط على صغار ومتوسطى المودعين، بينما تمكن كبار المودعين والسياسيين وملاك البنوك من سحب وتهريب مبالغ دولارية طائلة إلى خارج البلاد. إذ يباشر النائب العام المالى تحقيقا موسعا بشأن سحب وتحويل ما يقارب 2,3 مليار دولار للخارج خلال شهرى نوفمبر وديسمبر الماضيين، بما أدى إلى تصاعد أزمة شُح الدولار السائدة فى لبنان حاليا. ولكن تنفيذ السحب والتهريب كان ممكنا فقط بسبب التداخل الكبير الذى يصل إلى حد التطابق بين رموز الطبقة السياسية ــ من المولاة والمعارضة ــ وبين كبار المساهمين فى البنوك اللبنانية، أو فى قولٍ آخر ملاك البنوك هم أنفسهم صناع السياسة.
***
وإذا حاولنا أن نبحث عن حل إنقاذى سريع للأزمة الحالية نجدنا نصطدم مرة أخرى بالتشابك بين السياسة والاقتصاد. من جهة توجد حالة فوضى فى اتخاذ القرار الاقتصادى والمالى بين الحكومة من جهة ومصرف لبنان من جهة ثانية وجمعية المصارف التى تعبر عن البنوك من جهة ثالثة. وإذ من المفترض أن تكون الحكومة ممسكة بالقرار الاقتصادى وما تتخذه يخضع له الجميع، فإن الأمر غير منطبق على هذه الحالة، لأن الأمر يشوبه تضارب فى المصالح. فالديون المستحقة على الدولة اللبنانية عائدة إلى تحالف من المقرضين يضم مصرف لبنان والبنوك المحلية وأيضا مجموعة من المقرضين الأجانب. وعندما امتنع لبنان عن دفع القسط المستحق من ديونه منذ حوالى ثلاثة أشهر، كان لابد من إطلاق عملية تفاوض بين لبنان والجهات المقرضة لتحديد آلية لجدولة الدين وتأجيله، ولكن الأطراف اللبنانية لم تتفق فيما بينها على صيغة موحدة لتحمل خسائر تأجيل استحقاق الدين حتى يتسنى للطرف الأجنبى أن يتفق معهم فيما بعد. وهنا يتضح مرة أخرى أن من اختلفوا فيما سبق للتنافس على حصص الأرباح المنتظرة يختلفون مرة أخرى اليوم ولكن حول تحديد حصة الخسائر التى ستكون من نصيب كل منهم. وتنطبق فوضى القرار الاقتصادى أيضا على التفاوض مع صندوق النقد الدولى، مما يوحى بعدم الثقة فى السلطات اللبنانية ونهائية ما ينشأ عنها من قرارات. وفيما كان القرار الاقتصادى المستقر نسبيا منذ منتصف التسعينيات عاملا مشجعا على إقراض لبنان، يصبح الأمر غير ذلك فى الوقت الراهن. فمؤتمر سيدر المنعقد العام الماضى كان يعد لبنان بحوالى 12 مليار دولار بين قروض ميسرة وهبات مالية من ممولين عرب وأوروبيين وأمريكيين، ولكن استحقاق لبنان لهذه الأموال بقى معلقا بخطة إصلاحات كان من المفترض تنفيذها على التوازى. غير أن تنفيذ هذه الخطة تعطل منذ الصيف الماضى بسبب خشية فريقى السلطة آنذاك أن يترتب عليها اقتطاعات قاسية من الامتيازات الزبائنية التى يحصلون عليها بشكل غير شرعى بموجب وجودهم فى السلطة. ولذا لم يتم إصدار وإنفاذ قوانين تضمن نزاهة وشفافية وتنافسية استقدام عروض الموردين للدولة فى أيٍ من القطاعات المنصوص عليها مثل الوقود لتوليد الكهرباء أو غيرها من القطاعات الحيوية للدولة والمجتمع.
ومن جهة أخرى أصبح من المستحيل أن تتقدم دول الخليج بحلول مالية إنقاذية للبنان كما كان يحدث فى أزمات سابقة. ففى ظل حكومة تعتبرها هذه الدول خاضعة لأولويات وإملاءات حزب الله، فإن معطيات التنافس الإقليمى مع إيران تقتضى أن تذهب دول الخليج إلى خيار تجاهل الأزمة اللبنانية كى تُعاقب اقتصاديا من اتخذ قرارا استراتيجيا بالتوجه صوب إيران. ويعد لهذا الأمر تداعيات أكثر خطورة مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، إذ من الممكن اتخاذ إجراءات أمريكية بمعاقبة كيانات اقتصادية وأفراد لبنانيين بسبب التداخل الكبير بين الاقتصادين اللبنانى والسورى. فمن المعلوم لجوء الحكومة السورية بشكل متواتر إلى استخدام كيانات اقتصادية لبنانية للإفلات من العقوبات المفروضة عليها ولتمرير حركة الاستيراد والتصدير إلى الخارج عبر لبنان. وفيما يدافع حلفاء سوريا فى لبنان عن خيار مقاومة العقوبات الأمريكية بالتوجه شرقا والاستفادة من العلاقات الجيدة مع روسيا والصين وفك ارتباط لبنان مع الغرب، يبدو هذا الطرح غير منطقى بالكلية. فمن المستبعد أن يقوم اقتصاد متهاوٍ يستورد 80% من احتياجاته الغذائية من الخارج ويبرم صفقاته جميعها بالدولار أن يتحول فى وقت قصير إلى عملات أخرى، بل لا يتوقع حتى أن توافق موسكو أو بكين على إمداده باحتياجاته فى مقابل عملة أخرى غير الدولار. ولذا تبقى الأزمة اللبنانية محل شد وجذب حتى تتوافق الطبقة السياسية التى تسببت فى هذه الأزمة على طرق منطقية للخروج منها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved