رأس المال الاجتماعى

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 12 يوليه 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

غير بعيد عن البناية التى تحتضن مسكنى، يوجد نادٍ رياضى، لم أفوت فرصة عضويته أملا فى الاستفادة من بعض أنشطته، كلما سنحت لى الفرصة. لكنى فوجئت، خلال الآونة الأخيرة، بتكدسه، على نحو غير مفهوم، بحشود من الأطفال والشباب، من الجنسين، لغير أغراض الرياضة أو الترفيه، فى عصر يوم الجمعة من كل أسبوع، إلى مستوى يوشك أن يشل حركة المرور فى شارع حيوى. وباستيضاح سر الزحام المربك فى يوم عهدناه إجازة رسمية، خُبِرتُ بأنه «يوم الرؤية».
للوهلة الأولى، وبعفو الخاطر، عرج المصطلح غير المألوف على مسامعى، بمخيلتى إلى وقائع استطلاع أهلة الأشهر العربية، كشهر رمضان المعظم، أو غرة شهر شوال للاحتفال بعيد الفطر السعيد، أو شهر ذى الحجة للوقوف على مواقيت الحج وعيد الأضحى المبارك. بيد أن حالة من الدهشة قد تملكتنى حينما تبين لى أنه اليوم المسموح فيه للأزواج المنفصلين عن زوجاتهم برؤية أطفالهم، بموجب حكم قضائى لمحكمة الأسرة، يُمكِن الأب المطلِق لزوجته من رؤية أطفاله لساعات ثلاث أسبوعيا فى مكان عام قريب من سكن الأم، حسب «قانون الرؤية»، الذى يمنحه ذلك الحق، حالة امتناع الأم المطلَقة، التى هى الطرف الحاضن للطفل حتى بلوغه عامه الخامس عشر، عن السماح للأب المطلِق برؤية أولاده وديا وبانتظام.
إلى جانب كثافة عدد الآباء والأمهات والأطفال، استلفت انتباهى حداثة أعمارهم جميعا، ما يشى بتنامى معدلات الطلاق فى وقت مبكر من عمر الزواج. وبالرجوع إلى أهل الذكر، ثم الاطلاع على أحدث ما أصدره الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء من بيانات بهذا الخصوص، لمست ارتفاعا صادما فى حالات الطلاق المبكر المسجلة فى البلاد خلال السنوات القليلة الماضية. فقد بلغت عام 2019، 237.7 ألف حالة، بمعدل واحدة كل 2.11 دقيقة، بما يمثل زيادة نسبتها 8 %، مقارنة بـ 201 ألف حالة عام 2018. وبينما وصل عدد حالات الزواج عام 2020 إلى 902 ألف حالة، كانت حالات الطلاق فى العام ذاته 218 ألف حالة، مسجلة ارتفاعا نسبته 24%، حيث تؤكد الوثائق والبيانات الرسمية وقوع 24 حالة طلاق وسط كل 100 حالة زواج تشهدها مصر يوميا. وفى حين تتراجع تلك النسبة بين المتزوجين متجاوزى 65 سنة، ترتفع بين الشباب فى سن 30 و35 عاما.
مناطقيا، تقل نسبة الطلاق فى الريف عن الحضر، فيما تفوق معدلات الزواج فى الأول نظيرتها بالأخير، وتتصدر القاهرة قائمة أعلى عشر محافظات تسجيلا لحالات الطلاق على المستوى الوطنى، حيث يتم رصد حالة طلاق كل 10 دقائق، تليها الجيزة، بواقع حالة كل 17 دقيقة. واجتماعيا، تظهر الإحصاءات المعتمدة، تطورا لافتا فى الخلفيات الاجتماعية للمنفصلين. فبعدما كانت تنتمى غالبيتهم لفئات متيسرة، اتسعت دائرتهم، مؤخرا، لتشمل الطبقتين الوسطى والدنيا. سواء عبر طلاق الضرر، الذى تكون فيه الزوجة متضررة من الزوج لأسباب يترتب عليها استحالة العشرة، فتطلب الخلع، الذى أضحى يمثل 88 % من إجمالى حالات الطلاق بالمحاكم، أو من خلال طلاق المصلحة، الذى يتأتى من طلب الزوجة الطلاق من زوجها، مقابل تنازلها عن جميع حقوقها، أو منحه مبلغا ماليا.
علاوة على تواضع النضج، وانحسار الصبر، وتراجع التدين، وتقلص قدرة حديثى الزواج على التسامح والتعايش البناء، وتدنى استعدادهم للحوار والتفاهم وإدارة الاختلافات، عبر ابتكار حلول وسط مرضية للجميع، ترجع نتائج دراسة أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية العام الماضى، تفاقم معدلات الطلاق المبكر فى بلادنا إلى عوامل شتى، أبرزها: التغيرات المزاجية، التى تعترى شخصية الزوجين عقب الزواج والانخراط فى العمل، وتسابقهما، حتى الندية، فى إثبات الذات وبلوغ الاستقلال المادى، إلى جانب الاختيارات الزوجية المستندة إلى معايير غير حكيمة، وتدخل الأهل بهذا المضمار، ثم فى الحياة الزوجية لاحقا. فضلا عن إخفاق الزوجين فى التأقلم مع طبائعهما المتباينة، مع استفحال الضغوط الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، وصولا إلى الاستغراق فى العالم الافتراضى، ما يجعله، بمرور الوقت، نافذة للخيانة الزوجية والجفاء العاطفى. ويبدو أن الأجيال الجديدة قد غدت أقل تقديسا لمؤسسة الزواج وأكثر استهانة بقرار الانفصال وتبعاته، حتى بات الأمر أشبه بالعدوى الاجتماعية، بحيث تفضى مصاحبة أزواج منفصلين إلى استسهال قرار الطلاق، باعتباره خلاصا وهميا سريعا من تعقيدات المشاكل الزوجية، دونما تحسب لعواقبه الوخيمة.
إلى جانب ارتفاع نسبة المرأة المعيلة إلى ما بين 10% و15%، مع تخلى الرجل عن مسئولية الإنفاق على عياله عقب الانفصال، وتثاقل الأعباء على كاهل المرأة المطلَقة، التى تضطر للقيام بدور الأب والأم، فى آن، لتربية أطفالها، تحت وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة، والصورة الذهنية النمطية السلبية عنها لدى قطاع عريض من المجتمع. وإضافة إلى وجود ملايين الضحايا من«أطفال الشقاق»، الذين لا يحول وجود أبويهم، دون حرمانهم من المستوى اللائق من الخدمات الصحية والتعليمية والغذائية والترفيهية حتى بلوغهم سن الثامنة عشرة، وفقا للمقياس الأممى لرأس المال البشرى، تتجلى أبرز التداعيات الخطيرة للطلاق المبكر فى تقويضه لمؤسسة الأسرة، التى هى نواة الثروة البشرية وعماد رأس المال الاجتماعى.
ففى مؤلفيه الرائعين: «الثقة: دور الثقافة والفضائل الاجتماعية فى تحقيق الازدهار الاقتصادى»، الصادر عام 1995، ثم «الانفراط الكبير: الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعى»، عام 1999، نبه المفكر الأمريكى، فرانسيس فوكوياما، إلى أهمية رأس المال الاجتماعى، الذى تنسجه الجوانب الإيجابية للحياة الاجتماعية، ممثلة فى شبكات العلاقات الإنسانية الوطيدة والمبادئ
الاجتماعية الأصيلة، التى تمكن أفراد المجتمع وشرائحه من التصرف معا بصورة فعالة ومجدية لتحقيق أهدافهم المشتركة. كما لفت النظر إلى الارتباط الوثيق بين رأس المال الاجتماعى والأمن القومى، انطلاقا من إسهام ترابط اللحمة الاجتماعية، ورسوخ الثقة والانتماء بين مكونات المجتمع، فى تقوية الجبهة الداخلية، عبر تعزيز السلام الاجتماعى والوحدة الوطنية، التى تشكل جميعها مرتكزات راسيات للأمن القومى.
وفى سِفره الموسوعى الأشهر «رأس المال: نقد الاقتصاد السياسى»، الذى التأمت مجلداته التسعة، بعدما جمع آخرها فريدريك أنجلز عام 1867، ليغدو عمدة دراسات الاقتصاد السياسى الماركسى، وباكورة الإبداعات الفكرية للقرن التاسع عشر، حذر، كارل ماركس، من أن يفضى ذبول الوشائج الأسرية، أو هشاشة الاندماج بين الجماعات البشرية، إلى تعاظم أزمـة التكامل القومى، التى تمثل أقصى درجات التراجع لرأس المال الاجتماعى. حيث يرى فى التلاحم بين أفراد المجتمع مؤشرا لمدى قوة الدولة وقـدرتها على تجاوز مختلف التحديات والتهديدات. فبقـدر وحـدة المجتمع وقوة تماسكه، ومتانة الروابط والعلاقات الودية بين أفراده، تتعاظم قوة الدولة وتتفاقم مناعتها، وتنمو قدرتها على درء المخاطر، بمختلف مشاربها.
ولما كانت صلابة رأس المال الاجتماعى تشكل طوق النجاة الذى ينجى المجتمعات من التشظى والاضطراب، كما تمثل صمام الأمان للدول فى مواجهة التفكك والانهيار، فقد اعتمدت حروب الجيلين الرابع والخامس، فى سعيها إلى هدم الدول من داخلها بغير لجوء للخيارات العسكرية، على استهداف المجتمعات، عبر استراتيجيات دعائية تتوخى إذكاء المشاحنات والتوترات بين تكويناتها البشرية، وتوسيع الفجوات بين الدولة والمجتمع، بغية هدم جسور الثقة، التى هى بمثابة الحبل السرى لرأس المال الاجتماعى.
من هذا المنطلق، أكدت النسخة المعدلة لاستراتيجية الأمن القومى الروسية لعام 2015، والتى صادق عليها الرئيس بوتين مطلع الشهر الجارى بعد تحديثها، على ضرورة حماية المجتمع الروسى، وتطوير إمكاناته البشرية، وتحسين نوعية حياته ورفاهيته، وتعزيز وحدته وتماسكه، مع التشديد على حماية أسسه وثوابته التقليدية الراسخة فى مواجهة المخططات الرامية إلى النيل من قوة لحمته. وفى السياق ذاته، دعا الرئيس الصينى، شى جين بينغ، فى كلمته أمام مؤتمر «الحزب الشيوعى الصينى والأحزاب السياسية العالمية»، والتى استضافتها بكين افتراضيا مؤخرا، إلى الحفاظ على تلاحم المجتمعات، وتحقيق رفاهية الشعوب، وتأسيس توافق عالمى حول ضرورة التمسك بالقيم الإنسانية والتقاليد الاجتماعية المشتركة، واتخاذها أساسا لبناء مصير كونى متناغم.
لست أشك، قيد أنملة، والحال هكذا، فى أن التقارير والإحصاءات الرسمية المفزعة، التى تنم عن ارتباك، لا تخطئه العين، فى ثروتنا البشرية، وتنضح بتهديد مباشر لرأس مالنا الاجتماعى، ستستنفر قيادتنا الحصيفة، والمدركة لأهمية البعد المجتمعى فى أمن بلادنا القومى. وأظنها ستمضى قدما فى تكثيف مساعيها المضنية والحثيثة لحشد الجهود، وتعبئة الطاقات، وتبنى جميع المقاربات الثقافية والتنموية الكفيلة باستنقاذ مؤسسة الأسرة الممتدة، من براثن التفكك والاندثار. فباستكمال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والقانونية، المنوطة بتحقيق العيش الكريم والآمن لأبناء شعبنا، سيتسنى لوطننا صيانة ثروته البشرية، وحماية رأسماله الاجتماعى، بما يعزز مناعة جبهتنا الداخلية ضد الانكشاف والتصدع، ويحصنها ضد المؤامرات الخبيثة والمخططات المغرضة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved