عن سياسة لا تُسمى... وعالم شديد التغيّر
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الأربعاء 12 يوليه 2023 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
شرعت الولايات المتحدة ودول أوروبية وبلدان متقدمة أخرى فى اتباع سياسة اقتصادية جديدة تلاحقت خطوات تطبيقها مهرولة فى أعقاب أزمات متعددة متلاحقة، وستكون لها تداعيات مهمة على اقتصادات بلداننا النامية واستثماراتها وتجارتها ودور الدولة فيها.
وقبل تحميل الأزمات المترتبة على جائحة كورونا والحرب فى أوكرانيا بما لا تحتمل، أشير إلى أن الإجراءات المشكّلة لهذه السياسة الجديدة قد رصدتها تقارير دولية ودراسات، منها بحث فى «عودة السياسة التى لن تسمى: مبادئ السياسة الصناعية» أعدّه خبراء من صندوق النقد الدولى فى عام 2019، مسترشدين بنجاحات التجربة الآسيوية التى ساندت المنتجين المحليين فى الصناعات المتقدمة، وتوجهها التصديرى، ودفع المنافسة مع تفعيل قواعد المحاسبة بالإثابة والجزاء. وفى عام 2020 عُقد مؤتمر لخبراء فى الاقتصاد حول احتمالات عودة السياسة الصناعية بشكل جديد بما يشمل، ولا يقتصر على، تحقيق قفزات نوعية فى الصناعات التحويلية التكنولوجية المتقدمة؛ وهو ما لخصت نتائجه الاقتصادية ماريانا مازوكاتو فى كتاب عنونته «عودة السياسة الصناعية ودور الحكومة فى تحقيق ازدهار مشترك».
وتشمل السياسة الصناعية الجديدة ما يصفه الاقتصادى روتشير أجراوال بـ«جهود الدولة لتشكيل الاقتصاد باستهداف أنشطة اقتصادية وصناعات ومشروعات محددة من خلال حزمة متنوعة كالدعم والحوافز الضريبية وتطوير البنية الأساسية وقواعد رقابية حامية ومساندة البحث والتطوير».
وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية تبارى النقاش بين رفض قاطع للسياسات الصناعية كفكرة سيئة أهدرت موارد الاقتصاد فى السابق فى مشروعات حبذتها بيروقراطية الدولة بخسائر فادحة للقطاع العام وزيادة الديون وتراجع التنافسية والاستثمار والتصدير وتفشى البطالة المقنعة، إلى نهج جديد يعتمد على مفهوم المشاركة بين الاستثمارات العامة والخاصة، وتحديد «مهام طموحة» على غرار ما قام به الرئيس الأمريكى السابق جون كينيدى منذ أكثر من 60 عاما.
وقد عرضت هذا النهج خلال كلمتى فى القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التى عُقدت فى بيروت فى عام 2019، موضحا أن «العالم يشهد تغيرات فى موازين القوى الاقتصادية العالمية والإقليمية، تستوجب الاستفادة من منهج عملى واقعى لتحقيق التقدم. وبمناسبة الاحتفاء بهبوط أول إنسان على سطح القمر لنا فيما فعله الرئيس كينيدى، مع وكالة الفضاء الأمريكية مثلا. فقد أُسست هذه الوكالة، المشهورة بـ(ناسا)، فى عام 1958 لتحقيق أهداف متعددة كغزو الفضاء وتطوير التكنولوجيا فى مجال عملها، إلى غير ذلك، وحُشد للوكالة من الموارد ما حُشد، وجُمع لها من العلماء ما جُمع. لكن كينيدى أنقذها من مصير بيروقراطى محتوم بأن جعل لها هدفا محددا، ومن دونه لظلت هائمة تطلع إلى المجهول من دون هدى أو دليل». فما فعله كينيدى هو تحديد الهدف بوصول أول إنسان إلى سطح القمر والعودة به سالما إلى الأرض. وبهذا حوّل غموض تعدد الأغراض، هدفا طموحا، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح والفشل. وقد تحقق هذا الهدف فعلا فى عام 1969 بالخطوة الأولى التى خطاها رائد الفضاء نيل أرمسترونج، وكان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لتوجه نطلق عليه اليوم «رمية نحو القمر».
وحاليا تجد دعما فى الولايات المتحدة على سبيل فى مجال أشباه الموصلات بعد اعتماد صناعتها على استيراد 90 فى المائة من احتياجاتها منها من تايوان، فوجّهت لها دعما يبلغ 39 مليار دولار من جملة دعم مالى وفّره قانون أقرّه الكونجرس الأمريكى بتحفيز مالى بمقدار 280 مليار دولار لهذه الصناعات ومثيلاتها التى تعتمد على البحث والتطوير ومشاركة الاستثمارات الخاصة والتى ستكون محظورة عليها المشاركة فى تطوير هذه الصناعات فى الصين لمدة 10 سنوات. كما يوفّر قانونا آخر ذا توجه داخلى وحمائى، والمسمى بقانون تخفيض التضخم، 370 مليار دولار معونات للاستثمارات فى الطاقة النظيفة. وقد حاولت ما استطاعت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، فى زيارتها الأخيرة للصين تخفيف أثر مثل هذه السياسات على العلاقة بين البلدين بأنه سيتم تحديد نطاق القطاعات ذات الطبيعة الخاصة للأمن القومى لأضيق الحدود.
وفى الاتحاد الأوروبى تشهد بين أعضائه تعاليا للنداءات لمواجهة السياسة الصناعية الأمريكية بحماية تنافسية الأنشطة الاقتصادية الأوروبية، فيُخصص لها من صندوق التعافى من الجائحة 160 مليار يورو لمشروعات الابتكارات والتحول الرقمى وصناعة البطاريات وأنشطة العمل المناخى. وعبر المحيط الهادى ستجد 57 شركة متميزة فى اليابان تحظى بدعم 500 مليار دولار من الحكومة لحثهم على الاستثمار المحلى وتخفيف الاعتماد على الصين.
على بلداننا النامية أن تدرك عاجلا خصائص هذا الواقع الجديد وألا تضيع الزمن النفيس فى التحسر على تبدل توجهات وتغير الأساليب الاقتصادية؛ فليست هذه المرة الأولى فى العصر الحديث التى يشهد فيها العالم تحولا بندوليا فى إدارة الاقتصاد من النقيض إلى النقيض! ولخّص المؤرخ الاقتصادى ماكس هارتويل حركة بندولية للتيارات السائدة فى حكم الاقتصاد بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، تراوحت بين تدخل سافر للدولة بسيطرة أفكار مدرسة الميركانتيليين أو التجاريين حتى ثبتت عدم كفاءتها؛ أعقبها تبنٍ لحرية التجارة والاقتصاد فحسنت الكفاءة ولكنها أضرت بالعدالة؛ كما شهدت العقود التالية للحرب العالمية الثانية تبدلا بين تدخل الدولة والاعتماد على السوق فى تخصيص الموارد؛ فكلما ظهر فشل فى أحدهما كان اللجوء للبديل. وما تغير اليوم هو سرعة انتقال هذا البندول بين مزيج منهما.
هناك اعتبار آخر أوضحتُه فى دراسة مشتركة اعتمدت على مسح تطبيقى، وهو تراجع أهمية المذاهب الاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية، وما بينهما من مدارس اقتصادية، فى تشكيل أولويات السياسات العامة وطرق تحقيقها. فنحن عالم يطبّق براجماتية القط الأسود والقط الأبيض؛ وفقا لمقولة الزعيم الصينى دينج جياو بينج بأنه لا يهم لون القط ما دام يصيد الفئران.