عصر الجاهلية السياسية!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 12 أغسطس 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

مع الدخول فى العام الرابع من المدة الأولى للرئيس عبدالفتاح السيسى، فإن نفرا من النخبة السياسية والإعلامية أعادوا الحديث القديم الجديد عن «المدة الرئاسية»، والتى حددها دستور ٢٠١٤ فى مدتين رئاسيتين كحد أقصى، كلا منهما تمتد لأربع سنوات، وحظر الدستور تعديل هذه المدد بوضوح!. يتذكر الجميع الانتقادات التى تعرض لها الدستور بسبب هذه القيود الدستورية فى العام الأول من حكم الرئيس، وأتذكر جيدا كيف أنه كانت هناك محاولات واضحة للدفع فى اتجاه تعديل مبكر للدستور توازت مع حديث مبكر للرئيس عن الدستور الذى كتب «بحسن نية»!

عاد هذا الحديث مرة أخرى مؤخرا وعاد معه الكلام المكرر عن خصوصية مصر وظروفها الاستثنائية والرئيس الزاهد فى المنصب والناس التى يجب أن تناديه للمنصب إلى آخر هذه الوصلة المحفوظة! فهذا النائب يتقدم باقتراح لزيادة المدة الرئاسية، وذاك الصحفى يقول إنه موافق على هذه الزيادة بشرط «الإجماع»، وهذا السياسى يحدثنا عن تصوف الرئيس وزهده، ولا أعلم أى إجماع هذا ومن هو المطلوب منه أن يجمع؟ وإذا كان الرئيس زاهدا فى المنصب بالفعل فلماذا نغريه نحن بمتع السلطة الزائلة إذن؟! ولماذا قبل كل شىء نصمم على العودة إلى عصر «الجاهلية السياسية»، وهو المصطلح الذى سبق واستخدمه الكاتب الكبير فهمى هويدى ،واصفا الأوضاع العربية إبان العدوان على قطاع غزة فى مقال له نشر فى «الشروق» فى مايو ٢٠٠٩ وأراه ينطبق على أوضاع مصر الحالية؟!

قطعا الحقيقة يعرفها الجميع ولكن كالعادة تغرينا المسرحيات السياسية، فنحن من عشاق سيرك السياسة ببهلواناته وأراجوزاته! الموضوع ليس زيادة المدة ولا الظروف الاستثنائية التى لا تنتهى أبدا حتى أصبح الاستثناء هو القاعدة ولا حتى زهد الرئيس فى المنصب، الموضوع أن النخب السياسية الحاكمة والمستفيدة من المشهد بالإضافة للشبكات الأمنية والسياسية والدعائية المعنية بالإشراف على الانتخابات الرئاسية تريد العودة لمرحلة ما قبل ٢٠٠٥ حيث زمن الاستفتاءات الجميل بمدد غير محدودة! ورقة بسيطة عليها علامتين(نعم/لا) مع سلسلة أغانى ومهرجانات وطنية عن حب مصر وعشقها والذى هو فى النهاية حب الرئيس كما نعلم، ثم ٩٩.٩٩٩٪ ونراكم بعد ٥ أو ٦ سنوات!

***

الحقيقة أن التعددية السياسية والانتخابات التنافسية ـ حتى ولو صورية ـ فى النهاية تتطلب الكثير من التحضير والتمثيل والإخراج وتؤدى أحيانا إلى بعض الإحراجات الداخلية والخارجية فلماذا كل هذا الهم؟! كذلك فإن الفترة من ٢٠١٤ وحتى الآن أثبتت أنه لا سياسة فى مصر، فلا حزب سلطة ولا حزب معارضة، لا أقلية ولا أغلبية، الموضوع يمشى بالحب أحيانا وبالأوامر المباشرة فى أحايين أخرى، وبالتطوع فى مواضع ثالثة وهكذا تدار مصر سياسيا منذ ثلاث سنوات، فأين هذه المؤسسة التى تتشابه مع الحزب الوطنى المنحل ـ على ماكان فيه من علل ـ القادرة على المساهمة فى إدارة المشهد الانتخابى وتحمل أعباءه المتنوعة ؟ أين هذه المؤسسة التى تقوم بمهام التواصل مع الخارج، استقطاب الناخبين، تجهيز الرئيس وخطابه، عمل برنامج انتخابى حتى لو شكلى ؟! لا توجد مثل هذه المؤسسة وروابط وائتلافات «فى حب الوطن» أضعف بكثير من الناحية التنظيمية والدعائية للقيام بكل هذه المهام، فلماذا لانرجع للاستفتاءات وننهى هذا الهرج والمرج حتى نتصالح مع مرحلة الجاهلية السياسية التى نعيش فيها؟!

من فى النخبة السياسية الحاكمة سيتحمل أصلا مرشحا محتملا ينافس الرئيس حتى ولو لم يحصد هذا المرشح سوى ١٥ أو ٢٠ فى المئة ؟ لا أحد! هناك إصرار على تحطيم وتشويه فرص أى مرشح جدى، هناك حساسية مفرطة من المنافسة السياسية حتى ولو كانت محدودة، ثم هل أجهزة الدولة مستعدة لتبادل حقيقى للسلطة؟! حينما مضى الرئيس السيسى المنتخب لتوه وثيقة «تبادل السلطة» مع الرئيس المؤقت المنتهية ولايته عدلى منصور فى يونيو ٢٠١٤ قلت إن هذه شكليات! فلم يحدث أى تبادل فى مقاعد السلطة لأن الوضع بين عامى ٢٠١٣ و ٢٠١٤ كان مؤقتا وبإجراءات استثنائية، لكننا نعشق الصورة الحلوة حتى لو كانت بلا أى مضمون!

الحقيقة أن يقينى هو أن الرئيس بالإضافة للشبكات الضيقة المحيطة به يرغب قطعا ليس فقط فى الترشح لمدة ثانية ولكن أيضا فى إيجاد مخرج للقيود التى وضعتها المادتان١٤٠ و ٢٢٦ من دستور ٢٠١٤ بخصوص مدة الرئاسة وحظر تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية ! والحقيقة أيضا هو أن الموضوع بالفعل مؤرق للسلطة الحاكمة من ناحية بسبب المأزق الدستورى المنتظر فى حال تعديل هذه المواد والذى سيعيدنا لجدل يختلف عليه دائما فقهاء القانون فى ماهية المواد المحصنة وعن معنى التحصين أمام ما يفترض ـ نظريا ـ أنه الإرادة الشعبية، ومن ناحية أخرى بسبب مأزق آخر متعلق بأن الاستفتاء نفسه فى حالة حدوثه سيتطلب المزيد من التجهيزات والاستعدادات التى قد لا تكون أجهزة الدولة مستعدة لها من الأصل!

قطعا هناك أسئلة أخرى متعلقة بنسب المشاركة المتوقعة وخصوصا بعد إماتة معنى السياسة والتمثيل السياسى فى أذهان الناس! وأخرى متعلقة بمدى قدرة الرئيس على الاحتفاظ بالشعبية التى تمتع بها فى ٢٠١٤ وخصوصا بعد السياسات الاقتصادية التى تسببت وما زالت فى معاناة الطبقات المتوسطة وما تحتها. وبسبب ذلك كله وقبل ستة أشهر تقريبا من الموعد المفترض لبدء إجراءات الانتخابات الرئاسية الجديدة عاد الحديث الجديد القديم عن تعديل المدة الرئاسية وبالتالى تعديل الدستور!

***

الحقيقة أننا لسنا فقط نقف أمام مأزق «المرشح الوحيد» بمعنى غياب المنافسة الشكلية، لكننا أمام مشكلة أكبر من ذلك بكثير، لأننا أمام مأزق «الرئيس الوحيد» الذى لا يجوز تغييره فضلا عن منافسته، فمأزق المنافسة هو مأزق شكلى طالما أنه لا قناعة فى أروقة السلطة أن احتمال التغيير وتبادل السلطة قائم بشكل سلمى، وهو بدوره ينعكس على قناعات الناس السياسية فى أنه لا سبيل لتبادل مقاعد السلطة بشكل سلمى وهو ما يفتح الطريق للأسف لقناعات العنف أو الاغتراب أو الانعزال، فضلا طبعا عن انعدام الثقة فى كل مؤسسات الدولة.

الصخب الإعلامى والسياسى الذى بدأ مؤخرا للدفع باتجاه تعديل المدة الرئاسية هو قطعا أمر خطير وتصميم على العند والسير فى الاتجاه العكسى للتنمية، فالأخيرة ليست مجرد مجموعة تشريعات وأبنية، وبدون معادلة سياسية تشاركية ـ حتى لو غير ديموقراطية ـ للحكم، فإننا حتما فى عصور الجاهلية السياسية، رئيس دائم، برلمان مفتت وضعيف، حكم محلى ميت، مجتمع مدنى مقيد، وإعلام شبه مؤمم، والعودة لهذه الجاهلية السياسية التى تخطتها نظم الحكم فى الغالبية العظمى من دول العالم بما فيها حتى تلك السلطوية، ستزيد من تهميش مصر خارجيا وتبقى على محدودية فرص تنميتها الداخلية وستزيد من حالة الاحتقان العام الذى قد يقود يوما ما إلى الانفجار العام مجهول العواقب!

التصميم على العودة إلى عصر الجاهلية السياسية وتحطيم أى حوار سياسى مفتوح فى مصر سيزيد من الأعباء الاقتصادية، ولن يمكننا من عبور الأزمات الحالية بأى نجاح يذكر، وسيجعل مصر الرسمية وغير الرسمية تعيش بسياسة اليوم بيومه، فالتخطيط للاستثمار والرفاهة والتقدم بمعطياته الاقتصادية والاجتماعية غير ممكن بدون معطى سياسى يتمتع بقدر من الحداثة والرشادة، وهذا المعطى ليس فقط غير موجود ولكنه لا يلوح حتى فى الأفق لطالما أصرت السلطة على المضى قدما فى هذه الإجراءات!

***

الأمر إذن يتخطى الانتخابات الرئاسية، يتخطى مأزق التعديلات الدستورية، بل ويتخطى كل الصخب الإعلامى الذى بدأ وسيزداد خلال الأشهر القليلة القادمة، كما أنه يتخطى أيضا الحديث حول توقيتات تنفيذ كل ذلك سواء قبل انتهاء الفترة الرئاسية الأولى أو بعدها، الأمر هو القناعات والإرادات، فطالما ظلت القناعة العامة أن منصب الرئيس مقدس لا يجوز المساس به، وطالما استقر فى يقين صانع القرار أن الشعب هو مجرد «كومبارس» يتم استدعاؤه فقط وقت اللزوم، وطالما غابت الإرادة عن أى فعل له علاقة بالسياسة، فستظل مصر فى عصر الجاهلية السياسية سواء بانتخابات تعددية شكلية أو باستفتاءات أو حتى بحكم عرفى طويل المدى حتى إشعار آخر!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved