دفتر عزاء أبى

محمد سعد عبدالحفيظ
محمد سعد عبدالحفيظ

آخر تحديث: السبت 12 سبتمبر 2020 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

بعد أسابيع من انتشار فيروس كورونا فى مصر، تحولت صفحات «السوشيال ميديا» إلى سرادق عزاء مفتوح، فلا يكاد يمر يوم دون أن تُعلق على صفحات عشرات الزملاء بتعبيرات مواساة فى فقدان أب أو أم أو عزيز.
ورغم إصرار وزارة الصحة فى ذلك الوقت على أن الأوضاع تحت السيطرة وأن نسبة الوفيات فى مصر من أقل النسب بين دول العالم، ألا أن تدوينات العزاء كانت كاشفة لواقع آخر، ولأسباب كثيرة ليس مجاله الحديث عنها لم يتمكن الصحفيون من الوصول إلى معلومات موثقة أو تقدير موقف حقيقى.
فى تلك الأثناء وكلما مررت فى سرادق العزاء الإلكترونى المفتوح، وأنا أخشى من اليوم الذى يتحول فيه حسابى على «فيسبوك» إلى دفتر عزاء ومواساة، فأبى الذى تجاوز السبعين ببضع سنوات، أصيب منذ أعوام بـ«تليف كبدى» ومناعته لن تمكنه من مقاومة الفيروس.
فكرت حينها أن اصطحب والِدَىَّ معى إلى القاهرة ليشاركا أولادى محبسهم الجبرى فى شقتى لأضمن عدم مخالطتهما أحدا، لكن حالت ظروف أسرية دون ذلك، وفى كل اتصال يومى مع أمى وبعد الاطمئنان عليها وعلى أبى، أشدد عليها بعدم الخروج من المنزل، أخبرها بمخاوفى فترد على: «لا تقلق وخليها على الله.. فالحذر لا يمنع قدر».
بالفعل كان للقدر ترتيبات أخرى، وجاء ما كنت أتحسب له، وأصيب والدى رحمة الله عليه بغيبوبة كبدية صاحبها ارتفاع فى درجة الحرارة، واضطررنا إلى «اللف» على معامل التحاليل والأشعة، وبحثنا عن مستشفى خاص لنقله، لكن تلك المستشفيات فى بنى سويف رفضت استقباله بدعوى الاشتباه فى إصابته بـ«كوفيد 19»، فما كان لنا إلا اللجوء إلى المستشفى الجامعى ببنى سويف.
تحسنت حالته بعد 48 ساعة تقريبا وعاد إلى منزله وكأنه أراد أن يودعه ويودعنا ويوصينا ببعضنا البعض، فبعد يوم تقريبا ارتفعت درجة حرارته مرة أخرى، فضاقت بى الدنيا ولاح شبح الموت أمامى، فأنا لا أثق فى قدرة منظومتنا الصحية فى التعامل مع تلك الحالات.
حملت أبى فى سيارة إسعاف وكلما ارتجف جسده من الحرارة ارتجف قلبى من الخوف، وبعد رحلة البحث عن سرير رعاية انتهى بنا الأمر إلى العزل بمستشفى بنى سويف الجامعى، وهناك أدركت أنها النهاية فالوالد دخل فى غيبوبة تامة، ولم يفسر لنا أحد سببها. فأطباء الكبد يرمون الكرة فى ملعب أطباء الصدر وهؤلاء يعيدون الكرة إلى زملائهم، وأبى يرقد لا حول له ولا قوة، أما أنا فتعتصرنى مشاعر العجز والنقمة على حال المنظومة الصحية البائسة.
كل المعطيات تؤدى إلى النهاية، ورغم ذلك كان الأمل يلوح من آن إلى آخر، دعوت الله أن يجعل لنا منها مخرجا، فالدعاء يغير القضاء كما يقولون، سألت الله أن يخصم من عمرى سنوات ليمنحها لأبى الذى لم أشبع منه، رجوته أن يفيق لساعات ويعود لبيته لأقبل قدمه وارتمى فى حضنه وأخبره بمدى حبى وتقديرى لتضحياته، وأن يلتف حوله أولادى وباقى أحفاده من شقيقتى، وبعدها يتركنا دون عذاب وألم.
وُضع أبى بعد أسبوع من غيبوبته على جهاز التنفس الصناعى، فأيقنت أن الرحلة انتهت وأن الله لم ينظر إلى دعائى، فقررت الاستعداد لساعة الوداع وترتيبات الجنازة، أصعب لحظة فى حياتك أن تشيع أحب الناس إليك وهو لا يزال حيا، الأصعب أن تكذب على من حولك وتخبرهم بأن حالته تتحسن وأنت على يقين بأنها النهاية.
عدت إلى القاهرة لأحضر أولادى وزوجتى، ورجوت الله أن يمهل أبى حتى أعود، لكن الساعة قد حلت وجاءنى الهاتف من إدارة المستشفى لتخبرنى أن قضاء الله نفذ، أسقط فى يدى وكل همى كيف سأخبر أمى وشقيقتى بأنه قد رحل رغم تأكيدى لهم أن حالته تتحسن.
مضت الأمور وأرقدت أبى فى مثواه الأخير، ورحلنا عنه لكنه لم يرحل عنى، فطيفه يلازمنى منذ انتقال روحه إلى بارئها فى 17 أغسطس، لا أختلى بنفسى إلا وأجده أمامى، أتذكره فى شبابه وهو يصطحبنى إلى «المولد» أو إلى المدرسة أو إلى حديقة تطل على شاطئ النهر، أتذكره وهو ينادينى فى ساعات أمله ومرضه الأخير وأبكيه بكاء حارا كما لم أبك من قبل.
هذا الرجل ضحى بكل شىء فى الحياة تقريبا كى يربينا أنا وشقيقتى، حرم نفسه من ملذات الدنيا حتى يوفر لنا حياة كريمة، كانت سعادته ورضاه عن نفسه فى أن يجدنا سعداء «مرتاحين ومبسوطين فى بيوتنا» على حد تعبيره.
سألته مرة عن متعته فى الحياة، فأجاب أن «أراك أنت وشقيقتيك وأولادكم ناجحين ومستورين».. أحبنا أكثر من نفسه وقدمنا على نفسه، كنت أسعد عندما أرى فى عينيه حبه لأولادى «صُلبى وامتدادى فى الدنيا» هكذا كان يقول عندما أسأله عن سر «دلعه» وتدليله لهم.. لازال صوته يتردد فى أذنى وهو يهاتفنى «مش هتجيب العيال وتيجى يا محمد»، ولازلت أرد عليه «حاضر يا حاج».
«حين تغفو جميع القلوب لا يغفو قلب الأب» ففى كل ضيق كنت أجده جوارى حتى لو لم أخبره بضيقى.
جمعنا الله معه فى جنات خلده، وعذرا إن كنت شاركتكم حالة شخصية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved