سمير فؤاد يكتب: أستاذ الرسم


سمير فؤاد

آخر تحديث: السبت 12 سبتمبر 2020 - 12:40 ص بتوقيت القاهرة

فى عام 1949 عندما كنت فى الخامسة كانت روضة أطفال مصر الجديدة أول عهدى بالتعليم.. كانت المدرسة تقع فى شارع البارون ومصممة على الطراز الذى ابتدعه المعمارى الإيطالى إسكندر مارسيل لمبانى هليوبوليس والمستوحى من الطراز الإسلامى.. ما التصق فى ذاكرتى من مبناها الجميل هو قاعة القراءة والتى كانت على شكل دائرى تعلوها قبة ضخمة مرصعة بنوافذ ذات زجاج ملون تغمر القاعة بضوء ساطع جميل.. فى الروضة لم يكن لدينا مدرس للرسم وكان يتولى هذه المهمة أستاذة الفصل والتى كانت تدرس كل المواد.. ما زلت أذكر أستاذه الفصل أبلة ثريا كما كنا نناديها والتى تعهدتنا برعاية أم حازمة وحنون.. كانت تعطى الأربعة الأوائل فى الفصل وكنت واحدا منهم عناية خاصة.. ولكنها كانت تضيق بمشاغباتى الزائدة وتعنفنى بشدة مبطنه بالحنان.. اكتشفت أبله ثريا موهبتى المبكرة فى الرسم وداومت على تشجيعى وذكر هذا فى دفتر التقارير الشهرية.. وفى عام 1952 انتقلت إلى مدرسة الخلفاء الابتدائية بشارع الخليفة المأمون.. وبعد عدة سنوات تم هدم مبنى المدرسة الجميل بدعوى التطوير لتحل مكانه مدرسة أخرى مبناها تصميمه جاف وسخيف ليعلن نهاية عصر الجمال.
فى مدرسة الخلفاء أول أستاذ للرسم أذكره كان الفنان أبو العنين.. كان شخصية جذابة له صوت عميق وعينان خضراوان تشعان طيبة وذكاء.. كان حكاء ماهرا يقص علينا قصصا كل ما أذكره منها هى تلك الرسوم المصاحبة للقصة والتى كان يخطها على السبورة بالطباشير الملون.. فقد استهوتنى الرسوم أكثر من القصة.. غادرنا أبو العنين سريعا إلى مؤسسة روز اليوسف ليتألق بعدها فى مجلة صباح الخير وتكسب الصحافة فنانا ترك فيها بصمة واضحة.
فى الصفوف الابتدائية تعاقب علينا عدد من مدرسى الرسم الذى أذكره منهم هو الأستاذ أحمد مظفر وكان صديقا لأخى الكبير ويزورنا أحيانا فى المنزل.. كان مظفر فنانا فى هيئته وتصرفاته وعازفا ماهرا على آلة العود وكان يحضر عوده أحيانا ليسمعنا فاصلا من عزفه فى حصة الرسم.
فى السنة الأولى من المرحلة الإعدادية جاءنا الأستاذ الحفناوى وهو الذى استمر معنا حتى تركنا المدرسة إلى مصر الجديدة الثانوية.. كان الأستاذ الحفناوى فى الخمسينيات من عمره.. شخصية فى غاية الطيبة.. لا أذكره يوما يرسم أو يخطط.. وكان أسلوب تدريسه يقتصر على تحديد الموضوع الذى نرسمه وربما بعض التصورات عن العناصر التى ينبغى أن تحتويها اللوحة.. ثم يمر علينا مبديا بعض الملاحظات هنا وهناك.. ولأن موهبتى فى الرسم والتلوين بالألوان المائية بدأت تتضح فى ذلك الوقت.. فقد تركنى الأستاذ الحفناوى أرسم ما أشاء وكانت مهمته تكاد تنحصر فى إمدادى بالأدوات والألوان وكلمات التشجيع والاستحسان وربما إبداء ملاحظة كل حين تأكيدا على مكانته كأستاذ لا أكثر ولا أقل.
نظرا لطيبة أستاذنا الحفناوى الزائدة ولأن حصة الرسم كانت فى العادة تتسم بمستوى من الانضباط أقل من المواد الأخرى والذى كان فى بعض الأحيان يصل إلى حالات من الهرج والمرج الخارج عن المألوف.. فقد دفع هذا أستاذنا العزيز إلى التسلح بعصا طويلة يقرع بها كل تلميذ يخرج عن حدود النظام.. ومثل شارلى شابلن فى فيلم العصر الحديث تحول هذا إلى متلازمة مرضية فكان يدور فى الفصل يهوى بها على التلاميذ توبيخا أو استحسانا فتطول العصا الجميع بدون تفرقة.. وكان الرعب يركب التلاميذ حينما يلمحون الأستاذ يقترب من مجلسهم فيلملمون أدواتهم وينتقلون من مكانهم إلى آخر أكثر أمانا.. وأصبح التلاميذ فى حصته يدورون فى قاعة الرسم وكأنهم يلعبون لعبة الكراسى الموسيقية.
فى المرحلة الثانوية كان أول احتكاك لى بفنان محترف وليس مجرد مدرس رسم.. كان إبراهيم يوسف يهودى مصرى من خريجى الفنون الجميلة.. وكانت ملامحه وأسلوبه فى الحديث وحركات يديه وهو يعبر عما يقوله هى النموذج النمطى للفنان.. وكانت له مقولة يكررها «ارسم بخطوط واضحة وصريحة».. ومثل سابقيه عندما عرف مستواى فى الرسم تركنى لحالى وكانت ملاحظاته عن أعمالى شحيحة.. كان أسلوبه فى التدريس تقدميا فكان يعطى الطلبة تدريبات فى تراكيب مساحات الأبيض والأسود وكيفية إيجاد علاقات إيقاعية أو عمل تركيبات بالقماش والورق بأسلوب الكولاج ثم إضافة ألوان لخلق بؤر اهتمام.. لم أعِ ما كان يفعله فى وقتها وفهمت مرامه بعدها بسنوات وتعجبت لماذا لم يشركنى فى هذه التدريبات التى كانت ستكون مفيدة لى أكثر من غيرى.. وما أثار عجبى أكثر أننى علمت من أصدقائى بعدها بسنوات أنه كان يقول عنى فى غيبتى أننى رسام ماهر فقط!!.
قبل أن نترك المدرسة إلى الجامعة كانت هجرة اليهود قد وصلت إلى ذروتها وقرر إبراهيم يوسف الهجرة وعلمت بعد ذلك أنه ذهب إلى إسرائيل لفترة ولم يعجبه الحال فهاجر إلى أمريكا.. قبل أن يغادرنا أسر إلى أنه لديه مجموعة من كتب الفن يريد أن يعرضها علىَّ إذا كنت أرغب فى اقتناء بعض منها.. وكان أن زرته فى منزله الذى اكتشفت أنه كان فى نفس منطقة سكنى.. عرض علىَّ لوحاته وكان أسلوبه تأثيريا مقاربا لأسلوب صبرى راغب فى شبابه وإن كانت ألوانه تميل إلى الأزرقات وليست بحيوية ألوان صبرى.. عرض على ثلاثة كتب وألمح أنها اختارها لى لأنها ستفيدنى.. رمبراندت.. فيلاسكيز.. ومارى كاسات.
اخترت الأول والثانى وهما من طبعات مؤسسة فايدون الشهيرة فى ذلك الوقت وطلب منى ثمنا رأيته زهيدا وعندما أخذت الكتابين لأغادر شد على يدى بحرارة مشوبة بالحزن.. وما زال الكتابان فى حوزتى فى المرسم حتى الآن وتعلمت منهما الكثير خلال رحلتى مع الفن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved