سنوات التيه

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 12 أكتوبر 2014 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

ليست لها علاقة بالأسفار أو بقصة خروج اليهود من مصر، التى وردت فى الكتب السماوية وكيف ضلوا الطريق فى صحراء سيناء لمدة أربعين عاما لأنهم كفروا بتعاليم موسى، وقاموا بعبادة العجل، لكن هى كل تلك السنوات، التى قضيتها حتى وقت قريب، وأنا لا أفهم بالضبط لماذا أفتقد حس الاتجاهات وأضيع فى الشوارع. تأقلمت على مر الزمن مع فكرة «التوهان» الذى يجىء بلا مواعيد ويخرج بلا استئذان.

تعاملت مع هذا العيب الوراثى على أنه فرصة للتعرف على عالم عجيب غريب، ببلد المتاهات هى الشىء الوحيد المحكم الصنع فيه. لم أعد أسعى إلى النجدة أو أشعر بالخوف كلما ضاعت بى السبل، بل أخذت أركض وراء التفاصيل الصغيرة. أحاول تعلم التسكع من القطط والكلاب الضالة، وأسير خلف غريزة الاستكشاف.

استند إلى جدار، وأنتظر إلى أين سيقودنى الجدار؟ أدور مع السور لأجد سورا آخر أكثر ارتفاعا أو أكثر غباء. أميز المكان بلافتة إعلانية ضخمة، وعندما تختفى أو تتغير، أفشل فى الاستدلال على الطريق، وتنفتح أمامى دهاليز المدينة مجددا وعالمها السفلى أحيانا. تستدرجنى الرائحة إلى مطعم شعبى أو آخر فاخر، وفقا للحى، وهناك تدور الحوارات غير المتوقعة مع أناس مجهولين.. كل هذا لا يضر، طالما لست فى عجالة ولا على ارتباط بموعد، أما عندما يضيق الوقت بى وبالشوارع، ويقابلك من يفتى فيما لا يعرف ويزيد من «التوهان» لأنه يريد أن يظهر بصورة الخبير ببواطن الأمور وابن المنطقة الذى لا يشق له غبار، أكره الطرق وألعن تركيبة المخ الذى لا يستطيع أرشفة الأماكن وخرائطها.

•••

نصحنى الأصدقاء بشراء جهاز «جى بى إس» صغير أو نظام تحديد المواقع الذى صار مسموحا به فى القاهرة، لكن جزءا منى ظل يعاند ويرغب فى مفاجآت الطريق. ربما لأننى أعى أن الاعتماد الكلى على جهاز مماثل سيفقدنى الكثير من المغامرات وسيزيد الوضع سوءا، فلا مران ولا محاولات استذكار، وأنا أرفض الاعتمادية. كما أتهكم على فكرة أن النساء غير موهوبات فى حفظ الشوارع بخلاف الرجال، أو لم تشف غليلى قط نظرية فص المخ اليمين الأنشط لدى الذكور، والذى يساعد فى تحديد الاتجاهات إلى ما غير ذلك من تفسيرات، حتى أيام قليلة مضت عندما تم الإعلان عن جائزة نوبل فى الطب.

•••

فاز بها مناصفة ثلاثة باحثين: جون أوكيف (أمريكى ــ بريطانى) وزوجان من النرويج هما ماى بريت وإدوارد موزر. هؤلاء العلماء الأجلاء استطاعوا التوصل لمشكلة أمثالى وحل اللغز الذى حير الحكماء لسنوات: كيف نحدد مواقعنا؟ وكيف نجد طريقنا؟ وكيف يتم تخزين هذه المعلومات وكيف نسترجعها عندما نتوجه للعنوان نفسه مرة أخرى؟ فى بداية سبعينيات القرن الماضى، رصد أوكيف، وهو متخصص فى علم الأعصاب الإدراكى، خلايا عصبية لدى فأر تجارب فى منطقة من الدماغ تدعى الحصين كانت تنشط لتساعد الحيوان على رسم خارطة للغرفة، وهى خلايا تلعب دورا محوريا فى عملية التذكر وتحديد الأماكن.

بعدها بحوالى ثلاثة عقود، اكتشف الزوجان ــ موزر ــ نوعا من الخلايا العصبية التى تسمح بقيام نظام من البيانات يؤدى إلى التموضع الدقيق وإيجاد الوجهة الصحيحة، بمنطقة أخرى مجاورة للحصين، وبالتالى يكون توصيف حالتى هو عطل أو خلل أو على الأقل ضعف بجهاز «الجى بى إس» الداخلى لمخى!

من المتوقع أن تساعد هذه الإسهامات العلمية فى فهم أعراض مرض ألزهايمر، إذ تتأثر فى مراحله المبكرة أجزاء معينة فى المخ، من بينها منطقة الحصين، ويبدأ المريض فى نسيان الطرق وعدم التعرف على المحيط، ثم يدخل هو الآخر إلى مرحلة التيه، لكنه تيه مؤلم ومذل، لا علاقة له بروح المغامرة التى استهللنا حديثنا بها، بل هو أشبه بحالة الأمة التى على ما يبدو ضلت الطريق بغير رجعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved