الناتو ينزع فتيل الصدام بشرق المتوسط

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 12 أكتوبر 2020 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

على الرغم من عدم تسليط الضوء بما يكفى على دورها الحيوى فى لجم الصراع المتفاقم بشرق المتوسط، تبقى المساعى الحثيثة لحلف شمال الأطلسى «الناتو»، هى الأمضى أثرا والأكثر فاعلية، حتى وقتنا هذا، لجهة الحيلولة دون اندلاع أية مواجهات مسلحة بين الأطراف المتنازعة، عبر بلورة آلية أمنية لنزع فتيل التوتر وتهيئة الأجواء لحلحلة الوضع المتأزم.
مستبقا غيره من المنظمات الدولية والتكتلات الإقليمية، استشعر الناتو مبكرا، بخبرته العسكرية، نذر إمكانية انفلات الموقف الملتهب بالإقليم المضطرب نحو مواجهة عسكرية دامية بين أنقرة وأثينا، ربما يتسع نطاقها ليطال أطرافا أخرى كفرنسا وقبرص، على وقع الانزلاق المحموم لغالبية الدول المنخرطة فى الأزمة، كما تلك الداعمة لها منذ أغسطس الماضى، فى غياهب العسكرة المفرطة، ما بين إجراء المناورات الحربية، وتموضع القطع البحرية المتناحرة على مسافات متقاربة، وإبرام الاتفاقات الدفاعية والبروتوكولات الأمنية، وعقد صفقات للتسلح النوعى، ما دفع بأمينه العام ستولتنبرج للإعراب عن بالغ قلقه جراء التداعيات الخطيرة لتزاحم الانتشار العسكرى المكثف داخل نطاق جيوسياسى ضيق للغاية كشرق البحر المتوسط، فى الوقت الذى تتيبس أقنية الحوار وتتعثر جهود التسوية.
فبجريرة انسحاب أنقرة من المحادثات الاستكشافية ومباشرتها إرسال سفن التنقيب عن النفط والغاز إلى مناطق الصلاحية البحرية التابعة لقبرص واليونان، تحت حماية الجيش التركى، الذى لم تتوقف مناوراته البحرية المتتالية، اتخذت أثينا حزمة من الإجراءات التصعيدية، كوضع جيشها فى حالة تأهب، وتوسيع المياه الإقليمية لبعض جزرها من 6 إلى 12 ميلا بحريا، وتسليح عدد من الجزر المقابلة لتركيا، وإبرام اتفاقات تعاون أمنى ودفاعى مع كل من واشنطن وتل أبيب وباريس، وإجراء مناورات عسكرية، ونشر قوات بحرية، وبناء عليه، تحسب الناتو لإمكانية أن يفضى تبنى أطراف النزاع وحلفائهم لسياسة حافة الهاوية التى أفرزت الأجواء المفعمة بالتصعيد العسكرى، إلى مفاقمة مخاطر سوء التقدير الاستراتيجى، بما يزيد احتمالات اندلاع الحرب عن طريق الخطأ البشرى أو التقنى، خصوصا بعدما كشفت صحيفة «دى فيلت» الألمانية، الشهر الماضى، عن توجيه أردوغان لجيشه بإغراق سفينة حربية يونانية بالمياه المتنازع عليها، توخيا لإثارة صدام عسكرى مع أثينا يتيح له ابتزازها استراتيجيا، كما يخوله التحايل على تراجع شعبيته لتأبيد الاستئثار بحكم بلاده، ولم يخف الناتو قلقه من التداعيات الكارثية المحتملة لافتقاد الأطراف المتنازعة للمقومات الضرورية لإنجاح سياسة حافة الهاوية، كيقين الخصم بصدقية امتلاك منتهج تلك السياسة لأسباب القوة الشاملة، وتمتعه بمهارة استخدامها وتوظيفها وفق حسابات دقيقة تضمن جهوزيته التامة لخوض الحرب وحسمها لصالحه عند الضرورة بغير تهور.
بمقاربة أخرى، يأبى الناتو إلا تفويت الفرصة على روسيا المتطلعة لتوسيع رقعة نفوذها بشرق المتوسط، مستغلة اشتداد وطأة التأزم بين أنقرة ودول متوسطية عديدة، ومستثمرة نجاحها فى التموضع الجيواستراتيجى بسوريا، وسعيها الدءوب لتكرار ذات السيناريو فى ليبيا، علاوة على تمكنها خلال الآونة الأخيرة، من نسج علاقات قوية ومريبة فى آن بأطراف الصراع كتركيا واليونان وقبرص، وربما تفسر تلك المقاربة، إصرار أمين عام الناتو، خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، على إعادة فتح ملف منظومات «إس 400» الصاروخية التى ابتاعتها موسكو إياها أخيرا، ومعاودة تحذيره وزير الخارجية التركى من تداعيات، لا تحمد عقباها، حالة إقدام الأتراك على نصب أو تشغيل أو حتى اختبار تلك المنظومات.
وفى الوقت الذى تتعثر جهود الوساطة لاحتواء التوترات بشرق المتوسط، فيما لم يتم الإعلان، حتى كتابة هذه السطور، عن موعد انطلاق الجولة الحادية والستين من المحادثات الاستكشافية التى تم الاتفاق أخيرا على استئنافها بين أنقرة وأثينا، إثر تعاظم الخلافات حول جدول أعمالها وإصرار اليونان على حصرها فى تحديد مناطق الصلاحية البحرية دون التعرض للمسألة القبرصية أو تسليح الجزر اليونانية، بالتزامن مع انبعاث التصعيد بين الجارين اللدودين بجريرة الخلافات الحادة حول المجال الجوى والسيادة والحدود البحرية ببحر إيجة والثروات الهيدروكربونية فى شرق المتوسط​​، نجح الحلف الأطلسى فى انتزاع موافقة الطرفين المتناحرين على الالتقاء فى مباحثات تقنية تجمع مسئولين عسكريين أتراك ويونانيين فى مقر الحلف ببروكسل، للتفاوض بشأن تحرى السبل الكفيلة بتفادى أية مواجهات غير محسوبة، عبر ابتكار آلية تحول دون تفجر نزاع عسكرى عارض وتقلص احتمالات وقوع الحوادث الاستفزازية.
وفى سبتمبرالماضى، وبعدما أعلنت أنقرة سحب سفينة المسح الزلزالى «أوروتش رئيس» من منطقة متنازع عليها مع اليونان، أعلن أمين عام الناتو، انطلاق المحادثات التقنية بين مسئولين عسكريين يونانيين وأتراك، بمقر الحلف وتحت رعايته، والتى حققت ست جولات متتابعة منها طيلة الشهر ما لم تدركه ستين جلسة من المفاوضات الاستكشافية الدائرة منذ العام 2002؛ حيث أعلن أمينه العام ينس ستولتنبرج، صبيحة انطلاق القمة الأوروبية الاستثنائية ببروكسيل مطلع الشهر الجارى، التوصل إلى آلية لفض النزاعات وتقليص الصدامات بين أثينا وأنقرة، تتمثل فى تدشين خط عسكرى ساخن بين قيادتى البلدين، لتجنب الاشتباكات العرضية بينهما والحد من مخاطر الاشتباك والحوادث فى شرق المتوسط، وهى الآلية الأمنية التى يأمل الحلف أن تمهد السبيل لإنجاح المساعى الدبلوماسية الرامية لتسوية النزاع المتشعب والمزمن بين البلدين، بحسب أمينه العام، الذى أرجع إدراك ذلك الإنجاز إلى ما وصفه بالانخراط البناء لليونانيين والأتراك فى حوار تقنى مباشر وجاد ومتواصل بروح تضامن الحلفاء واحترام القانون الدولى، فى ظل رعاية أطلسية، ووساطة ألمانية، ومباركة أمريكية.
وخلال الشهر الماضى، أوردت صحيفة «كاثيميرينى» اليونانية أن «آلية أساليب فض النزاع» التى يبحثها الناتو مع الجانبين اليونانى والتركى ستتضمن، إلى جانب إنشاء أداة اتصال مباشر على مدى الساعة بين جيشيهما عبر قناة آمنة يوفرها الحلف، تدابير أخرى عديدة من قبيل: توفير تباعد جيواستراتيجى بين السفن الحربية للجانبين، ودعوتهما لتجديد الالتزام بالمبادئ الأساسية للحلف، لاسيما المادة الأولى من ميثاقه، والمتعلقة بضرورة اعتماد الحل السلمى للخلافات التى تنشب بين أعضائه دون التهديد باستخدام القوة أو اللجوء لذلك، وكذا المادة الثانية المتصلة بمساهمة الأعضاء فى تطوير علاقات السلم والصداقة، ودعم التعاون الاقتصادى، فضلا عن احترام قواعد منظمة الطيران المدنى ونصوص قانون البحار، هذا علاوة على الزيارات المكوكية التى سيجرى خلالها الأمين العام للحلف مباحثات دورية مع القادة الأتراك واليونانيين، إلى جانب التواصل الدائم للجنة الناتو العسكرية مع الطرفين لتثبيت التوافقات ووأد أية خلافات قد تفضى إلى انفجار الوضع بشرق المتوسط.
شأنها شأن جميع النزاعات، استوجب ترتيب تلك الجولات المتصلة من المباحثات التقنية إقدام الطرفين المتنازعين على اتخاذ إجراءات لبناء الثقة، كقيام أنقرة بسحب سفينة التنقيب التركية «أروتش ريس» من المنطقة المتنازع عليها جنوب جزيرة كاستيلوريزو اليونانية فى 11 سبتمبر الماضى، ومن بعدها سفينة «ياووز» فى الرابع من الشهر الجارى، وهى المبادرات التى قوبلت بترحيب يونانى قبرصى، إذ اعتبرها رئيس الوزراء اليونانى كيرياكوس ميتسوتاكيس، خطوة أولى إيجابية تصب فى الاتجاه الصحيح نحو خفض التصعيد واستئناف الحوار بين البلدين، معربا عن أمله فى أن تتبعها خطوات أخرى مماثلة، ومبديا استعداد بلاده للانخراط بأية محادثات مباشرة مع أنقرة، لكن تركيا أعلنت مساء الاحد الماضي عن نيتها إعادة سفن التنقيب مرة أخرى واصدرت اشعارا بحريا بذلك "نافتكس"وهو ما اعتبرته اليونان " يظهر عدم صدق نواياها".
وسط مبادرات التسوية وجهود الوساطة التى تسابق الزمن لاحتواء التوترات بين أنقرة وأثينا، تظل مساعى الناتو للتهدئة من خلال المباحثات التقنية، هى المسار الأنجع لنزع فتيل التأزم بشرق المتوسط، حتى الآن على الأقل، فعلاوة على تمتعها بثقة أطراف النزاع، كونها تجرى فى إطار المظلة الأمنية، التى تجمعهما فى منصة واحدة منذ العام 1952، واللذين شكلا فى كنفها بالتعاون مع يوغسلافيا السابقة عام 1954، تكتلا بلقانيا يتصدى لتمدد الاتحاد السوفييتى باتجاه الغرب، تظل تحركات الناتو هى الأقرب إلى الحياد فى وقت تكيل تركيا اتهاماتها للاتحاد الأوربى والولايات المتحدة بالانحياز للجانب اليونانى القبرصى، فيما يندد الطرفان الأخيران بالتراخى الأوروبى فى كبح جماح الانتهاكات التركية بشرق المتوسط، وانطلاقا من حرصه على ضمان الاستقرار فى الإقليم القلق وتقويض النفوذ الروسى المتسلل إلى ربوعه عبر مساعدة جميع الشركاء المتوسطيين على الاستفادة من ثرواته، لم يتردد الحلف فى اقتحام الأزمة واضعا لنفسه هدفا محددا يتمثل فى تجنيب أعضائه والمنطقة والعالم بأسره للعواقب الوخيمة والمآلات الكارثية لسياسة حافة الهاوية التى يتبناها أطراف النزاع بشرق المتوسط.
ولعل هذا ما شجع الرئيس التركى على مطالبة الحلف، غير مرة، بتحمل مسئولياته تجاه ما وصفه بالخطوات الأحادية التى تتجاهل القانون الدولى وتضر بالسلام الإقليمى، وذلك على الرغم من التدهور اللافت الذى رصدته مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية، فى علاقة تركيا بالناتو، إثر تصاعد المنحى السلطوى الصدامى الذى اتبعه إردوغان فى أعقاب المحاولة الانقلابية المسرحية عام 2016، كإصراره على استجلاب وتشغيل منظومات الدفاع الصاروخية الروسية من طراز «إس 400»، وتأجيجه للصراع مع اليونان وقبرص وفرنسا فى شرقى المتوسط، وتدخله العسكرى فى سوريا والعراق وليبيا، وصولا إلى إحياء التوتر فى القوقاز بإذكاء النزاع المسلح فى إقليم ناجورنى كاراباغ، متجاهلا نداءات الحلف والمجتمع الدولى قاطبة للتراجع عن سياسته العدائية والالتزام بالتهدئة.
حتى تستوى المباحثات التقنية الأطلسية على سوقها وتؤتى أكلها بالحيلولة دون انزلاق أطراف النزاع المتوسطى إلى أتون الصدام المسلح، وتمهيد السبيل لتسوية سياسية ناجزة لخلافاتهم المزمنة والمتنامية، يتعين على الفاعلين الدوليين الثقال، الذين يشاطرون الناتو مخاوفه من نشوب حرب عفوية بشرق المتوسط جراء اشتداد وطأة الخلافات مع تنامى وتيرة العسكرة، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة، أن يهرعوا لدعم تلك المباحثات عبر تحرى جميع السبل الكفيلة بإنجاح «آلية أساليب فض المنازعات» التى انبثقت عنها، والبناء على ما تمخضت عنه من تفاهمات بين أثينا وأنقرة بشأن تحديد موعد الجولة الحادية والستين من المفاوضات الاستطلاعية وتبنى إجراءات لبناء الثقة، توسلا لترسيخ توافقات صارمة تمهد بدورها السبيل لتسويات سياسية شاملة ونهائية لكل الملفات والقضايا الخلافية العالقة بين دول الإقليم، بما يرسى دعائم الأمن والاستقرار فى ربوعه، ويتيح الاستغلال الأمثل لثرواته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved