حوار تلقائى بشأن غايات إسرائيل ومواجهتها
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 12 أكتوبر 2024 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
فى ذكرى مرور سنة على بدء الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، نزل عشرات الآلاف إلى شوارع مدن العالم، وأوروبا بالذات، يدينون إسرائيل، ويعلنون تضامنهم مع الشعب الفلسطينى ويطالبون بالأمن له وبتمكينه من حقوقه، بما فيها حقه فى تقرير المصير. فى إسبانيا وحدها، مشى المتظاهرون فى حوالى ثلاثين مدينة. فى العالم العربى، نزل المتظاهرون إلى شوارع بعض بلدانه.
غير أن اللافت لنظر المتابع لوسائط الاتصال العامة والخاصة، بما فى ذلك وسائط التواصل الاجتماعى، هو أن ثمة حوارا تلقائيا قد بدأ بشأن غايات إسرائيل ومواجهتها بين بعض أطراف النخب العربية المعنية بسلامة شعوبها وبالأمن والسلام والتنمية والتقدم لبلدانها وللعالم العربى وللإقليم الذى يقع فيه. كاتب هذه الكلمات يدرك الاستهزاء الذى تعرضت وتتعرض له النخب العربية، وبعضه مستحق، غير أن بعضه الآخر هو جزء من الحملة العالمية الشعبوية على النخب التى تقصد تقويض مصداقية الخطابات النقدية والاقتراحات التى تصدر عنها.
• • •
موضوع الحوار هو السلوك العدوانى المتنامى لإسرائيل وما ترمى إليه من ورائه. منذ الثامن من أكتوبر من العام الماضى، دمرت إسرائيل غزة، منازلها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها، وقتلت اثنين وأربعين ألفا على الأقل من سكانها، منهم سبعة عشر ألف طفل وأحد عشر ألف امرأة، وأصابت وشوهت مائة ألف آخرين. الجيش الإسرائيلى ساند المستوطنين فى الضفة الغربية ومعهم قتل المئات من الفلسطينيين، وصادر الأراضى ليتوسع الاستيطان. وإسرائيل تعلن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلطسنيين منظمة إرهابية وتصادر مقرها، وبعد أن قتلت المئات من موظفيها، تلغي تأشيرات موظفيها الدوليين، كل ذلك لحرمان الشعب الفلسطيني من سبل معيشته ولتشتيته. حجة الدفاع الشرعى عن النفس لم تنطلِ على الجمهور العربى ولا على قطاعات يعتد بها من النخب العربية، بنفس الشكل الذى لم يقبلها الملايين حول العالم والأغلبية الساحقة من دوله كما كشف عن ذلك تصويتها المتكرر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. الدفاع الشرعى عن النفس تحكمه قواعد التناسب، ثم أى دفاع شرعى يمكن أن تدعيه دولة احتلال؟
غير أن تطورات جوهرية حدثت فى الأسابيع الأربعة الأخيرة، قد تكون لها آثار عميقةٌ وبعيدة المدى. منذ خمسة وعشرين يوما، مدّت إسرائيل عدوانيتها إلى لبنان. فخخت أجهزة اتصال محمولة وأخفت فيها متفجرات وفجرتها فى جيوب أصحابها فقتلت وجرحت ما يربو على الألف من اللبنانيين، لهم علاقة بحزب الله أو ليست لهم. يلاحظ أن العملية المركبة لتزويد الأجهزة بالمتفجرات بدأت فى عام 2022، قبل عام واحد على الأقل من هجوم السابع من أكتوبر وهى بالتالى منبتة الصلة بها. ثم شنت إسرائيل غاراتها على بيروت والبقاع وجنوب لبنان، فقتلت آلاف أخرى من اللبنانيين، من بينهم الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله ومزاعم باغتيال خليفته، وتسببت فى نزوح مليون ومائتى ألف لبنانية ولبنانى من الجنوب، لجأ أكثر من مائة ألف منهم إلى سوريا المدمرة أصلاً، منضمين إلى ثلاثمائة ألف سورى كانوا قد لجأوا إلى لبنان وعادوا إلى بلدهم. ولم تتوقف إسرائيل عند ذلك. أغارت طائراتها على طولكرم فى الضفة الغربية، ثم على دمشق وحمص فى سوريا، وعلى الحديدة فى اليمن. ثم بدأت الدعاوى بأن جنوب لبنان جزء من أرض إسرائيل وأُطلِقَت أسماءٌ عبرية على قراه. وتجرأ البعض فى إسرائيل فأعلن عن بيع أراض فى الجنوب لمن يريد الشراء من الإسرائيليين. وأضافت إسرائيل إلى أفعالها خطابا شديد الوضوح. فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ميَّز رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى الشرق الأوسط بين دول اللعنة، ذات العلاقات العدائية مع إسرائيل، ودول البركة ذات العلاقات السلمية معها. غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلى لم يتوقف عند ذلك، بل أردف، مهددا، أنه لا يوجد مكان فى الشرق الأوسط لا تستطيع ذراع إسرائيل أن تصل إليه. فى هذه العبارة تهديد لكل من فى الشرق الأوسط حتى لا يفكر أحدٌ ممن يعتبرهم مباركين فى تعديل سياسته، خاصةً وأن إسرائيل هى التى تحكم على مدى الود أو العداء الذى يكنه لها هذا البلد أو ذاك.
تمادى نتنياهو فتوجه بالخطاب مباشرة إلى الشعب الإيرانى ثم إلى الشعب اللبنانى داعيا ومشجعا، وبلا مواربة، على نشوب الحرب الأهلية فى بلديهما. وكان تتويج الخطاب الإسرائيلى، وبئس التتويج، على لسان وزير المالية بيزاليل سموتريتش فى مقابلة أجرتها معه محطة التلفزيون الألمانية الفرنسية «آرتى». سموتريتش أعلن صراحةً أنه يريد دولة يهودية تشمل الأردن ولبنان وأجزاء من مصر وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية. قد يقال أن سموتريتش متطرف لا يعتد بما يصدر عنه، ولكن سموتريتش عضو فى الحكومة الإسرائيلية يشترك فى اتخاذ قراراتها وهو ما يجعل تصريحاته جانبا من النقاش العام المقبول فى إسرائيل. وجب التنويه بأنه لم يصدر عن الحكومة الإسرائيلية ولا عن أصدقائها على جانبى المحيط الأطلسى لا تنديد بأمنية سموتريتش ولا استنكارا لها.
• • •
بشأن إسرائيل والعلاقات معها، النخب العربية فى الدول التى نشأت إسرائيل فى وسطها تنقسم إلى ثلاث مجموعات. الأولى ترفض إسرائيل رفضا تاما، والمجموعة الثانية تنحو إلى التعاون مع إسرائيل، على غرار ما فعلته الدول الأطراف فيما يسمى «بالاتفاقيات الإبراهيمية»، ومجموعة ثالثة قبلت التعايش مع إسرائيل بغيةَ أن يحقق هذا التعايش الأمن لكل دول المنطقة وتوازن القوى بينها، وأن يمكّن الشعب الفلسطينى من ممارسة حقه فى تقرير المصير بما فى ذلك إقامة دولته المستقلة القابلة للحياة كدولة ذات سيادة فعلية، وكذلك من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة. هذه المجموعة الأخيرة فيها درجات وتباينات، ولكنها الأوسع. سلوك إسرائيل فى السنة والأسابيع الأخيرة جعل أعضاء متزايدين من هذه المجموعة يرون فيه عزما إسرائيليا على إخضاع الشرق الأوسط والهيمنة عليه، وهو ما لا يقبلونه. بدأ التساؤل بين أعضاء هذه المجموعة، تلقائيا وبلا اتفاق بينهم، عن الخطوات القادمة إن عملت إسرائيل على فرض هيمنتها فرضا. هل يستمر التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية وترحِّل إسرائيل الفلسطينيين إلى الأردن؟ بالنسبة للأردن هذه مسألة حياة أو موت لا يمكن الانتظار حتى تتجسد تهديدا وجوديا له. نائب رئيس الوزراء الأردنى الأسبق مروان المعشر ذهب إلى الدعوة إلى وقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل والانضمام إلى الدعوى التى أقامتها جنوب إفريقيا ضدها فى محكمة العدل الدولية، مضيفا «أننا جربنا» كل شىء مع إسرائيل للوصول معها إلى تفاهم وتعايش مقبولين فلم يفلح فى ذلك ما جربناه، ولذلك حان وقت تغيير المقاربة فى التعامل معها، ومبينا أن هذا هو السبيل الحقيقى إلى السلام.
الدكتور مصطفى كامل السيد على نفس هذه الصفحة من «الشروق» ذهب إلى شبه ما ذهب إليه مروان المعشر عندما اعتبر أن كل الحكام العرب قد تأكدوا من «خطأ ما يسمى باستراتيجيات السلام العربية» المتبعة منذ ما يقرب من خمسين عاما، وهو دعا الفئات المثقفة وقطاعات من النخبة العربية إلى التنبه إلى حقيقة المشروع الصهيونى وإلى توسيع نطاق مقاومته. وزير الخارجية المصرية الأسبق نبيل فهمى دعا منذ فترة غير قصيرة إلى عدم اعتماد الولايات المتحدة وحدها وسيطا بين إسرائيل والشعب الفلسطينى، وهو ما فيه خروج على الاستراتيجيات التى ندد بها الدكتور مصطفى. أستاذ العلاقات الدولية ووزير الخارجية اللبنانية الأسبق ناصيف حتى، لمواجهة الحرب الإسرائيلية فى لبنان وتداعياتها، دعا إلى التضامن الوطنى الفعال، أيا كانت «الخلافات العقائدية والسياسية بين مختلف المكونات السياسية اللبنانية»، وهو نقيض استراتيجية إسرائيل فى لبنان. وفى المنتديات تسمع من ينادى بالاستعداد لما قد يدعو إليه دونالد ترامب فى حالة انتخابه رئيسا للولايات المتحدة وهو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء لتتخلص إسرائيل منهم ويخلو لها مكانهم. وتجد آخر يذكِّر بمشروع إسرائيل الممتدة من النيل إلى الفرات حتى من قبل أن يصدر عن سموتريتش تصريحه، وثالثا يحذر ليس فقط من خطر توسعها الإقليمى، بل كذلك من أن تكون غاية إسرائيل من هيمنتها على الشرق الأوسط فرض نظام اقتصادى يكون اقتصادها فى مركزه، والاقتصادات الوطنية لدول الإقليم الأخرى تابعة له وخادمة.
• • •
هل من مصلحة إسرائيل والتعايش الذى تزعم أنها تبحث عنه أن ينفض أعضاء المجموعة الثالثة من النخبة العربية عن فكرة التعايش التى كانوا قد قبلوها من أجل تحقيق الأمن والسلام لدول المنطقة، ولخلق ظروف التنمية التى تحتاجها شعوبها؟ المراقبون العرب كفوا عن التساؤل عن عقلانية إسرائيل وحكامها. همُّهُم صار أن يسهموا فى النقاش العام بشأن سلوك إسرائيل وغاياتها. البعض منهم اقترح سبلاً لمواجهة هذا السلوك وهذه الغايات، والبعض الثانى تساءل عما هى أنجع سبل المواجهة، والبعض الثالث ركز على تحليل سلوك إسرائيل واستنتاج غاياتها والدعوة العامة إلى مواجهتها. النخبة ليست لديها المعلومات الضرورية لاتخاذ المواقف الرسمية من عدوانية إسرائيل ولا هذه وظيفتها. الحكومات هى المنوط بها اتخاذ هذه المواقف، مستفيدةً من النقاش العام الدائر باعتباره مساهمة جادةً فى عملية اتخاذ القرار.
يبقى أن إسرائيل بتعديها على عدة بلدان عربية فى آن واحد، وبتهديدها المستتر لبلدان أخرى عملت على غير قصد منها على إعادة الصراع، الذى كان قد صار فلسطينيا إسرائيليا، إلى مفهومه القديم كصراع عربى إسرائيلى.