قوارب الموت والحياة

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 12 نوفمبر 2015 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

يشق القارب الصغير طريقه فى الماء فيفرح الأطفال. يبحرعند الغروب فيرتاح الكبار فى مقاعدهم وينظرون إلى الأفق. هدير المحرك متواصل، والمياه على جانبى المركب ترقص فى تموجات صغيرة تلمع كالذهب.

فى مكان آخر غير بعيد، يبحر قارب آخر، على متنه أيضا أطفال وكبار، يركبون الموج ساعة الغروب، ينظرون أيضا إلى الأفق، لكنهم غير مرتاحين فى مقاعدهم، ولا يهتمون بتراقص المياه من تحتهم أو لمعتها.

قد يلتقى القاربان، وقد ينظر طفل إلى طفل على المركب الثانى فيلوح له بيده. ستشجع إحدى الأمهات طفلها أن يلوح وستنهر أم على القارب الثانى ابنها عن الحركة، فكل حركة هناك محسوبة وقد تؤدى إلى نهايتهم إن تمت ملاحظتهم أو إن اختل توازن القارب المطاطى الهش.

سيعود ركاب القارب الأول إلى بيوتهم بعد المغرب، وسيحكى الأطفال لأصدقائهم فى اليوم التالى عن جمال الماء وبرودة الهواء وحركة البحر، وعن المأكولات التى أخذوها معهم فى الرحلة، وقد يكرروا الرحلة قريبا بصحبة أصدقائهم.

أما ركاب المركب الثانى، فقد يصلوا إلى اليابسة أو لا يصلوا.

قد يظل المركب متماسكا حتى يلقيهم صاحبه الواحد تلو الآخر فى البحر قبالة الشاطئ فى اليونان، أو قد تبدأ المياه بالتسلل إلى داخل القارب وهو فى عرض البحر فتغرقه ويجدوا جميعا أنفسهم فى الماء.

وقتها ستمسك الأم برضيعها ويمسك زوجها بالولدين الأكبر سنا. وقتها سينادى الشاب على والده العجوز فلا يسمع الرد. سيجدف الأخ الأكبر بيد ويجر أمه وراءه، وهى تتمسك بابنتها ذات الخمس سنوات، والتى بدأ صوتها يبهت وشفتاها تزرقان. سيضطر الأب أن يختار أيا من أطفاله الأربعة سيحاول إنقاذه: ابنه قوى البنية الذى سيتغلب على الطبيعة إن نجا من البحر؟ أم ابنته الدلوعة التى توعده دوما أنها سترعاه فى كبره؟ ابنته الكبرى الذكية التى تعلمت اللغات الأجنبية؟ أم آخر العنقود الذى انتشله الطبيب من الموت بأعجوبة بعد أن ولد شبه ميتا؟ فى الحقيقة لن يجد الأب ترف هذه الأسئلة فسيمسك بأقرب أولاده إليه مسافة ويبدأ بالتجديف بيده الأخرى، بينما يصيح أسماء زوجته والأبناء الآخرين دون أن يسمع الرد.

هناك لحظات يصفها الناجون من الموت بأنها أشبه بالساعات. لحظات قد تقتلهم ذكرى قسوتها بعد أيام من نجاتهم منها. لحظات لا يمكن لنا أن نتصورها ولو سمعنا عنها من ألف شخص. لحظة إجبارك أن تختار بأى من أولادك تتمسك هى قطعا لحظة أكلح من السواد وأشرس من الذبح. أن تتسلل ليلاً مع عائلتك، حاملين حياتكم فى كيس من البلاستيك على ظهركم، حالمين بشمس أقل حرقة وغد أقل غدرا، أن تضع رقبتك ورقبة أطفالك فى يد مهرب تعرف سلفا أنه سيتخلى عنك عند أول مطب فى الطريق، أن تحكى لطفلك قصة قبل النوم حتى تلهيه عن الاختناق وسط البحر البشرى فوق مركب معد لحمل نصف هذه الكمية، معناها أن حلمك بالحياة على الطرف الآخر أوضح لك من هذا الكابوس.

أضم رضيعتى فتتكور على صدرى. أدس أنفى فى تلك المساحة الصغيرة بين خدها ورقبتها وأستنشق رائحتها المختلطة برائحة البحر. تنهمر دموعى فأحضنها بشدة فتصرخ. أراها تصارع الموج وأرى وجهها المزهر يطفو فوق الماء ويغرق. أتمسك بها فأسمع صوت ابنى الأكبر ينادى ماما. أشد على يده فيتأوه ويصرخ «ماما ليه عم تعصرى ايدي؟» أنظر من حولى فأرانا فى المركب وقت الغروب وباقى المجموعة تستمتع بالهواء البحرى وبالزراق اللا منتهى من حولنا. أغمض عينى فأرانا مع هؤلاء الفارين من الموت، أختنق مع اختناق أولادهم، أتلاشى مع تلاشى أحلامهم. أبكى أطفالاً غدر بهم الموج وأمهات خطفتهم المياه. أبكى بلدا أكلته النيران فدفعت بأبنائه إلى المذبح. أبكى الرضيع الملفوف بغطاء على الشاطئ، أتذكره كل مرة أغطى أطفالى فى أسرتهم. أبكى كل سورى رمى نفسه فى البحر متجاهلاً قصص من غرقوا من قبله. يمتلك الإنسان قدرة عجيبة على تجاهل الخطر، أو على تخيل أنه هو تحديدا سينجو منه، وقد ينجو فعلا، لكن سيغرق مقابل نجاته الكثيرون، فنتحمل جميعا وزر نجاتنا وغرق الآخرين. أما أنا، فأحضن أطفالى الثلاثة وأفكر فى أم فقدتهم. أقبل طفلى الأوسط وأتخيل طفلاً سيحيا دون أهل. يعود بنا المركب إلى الشاطئ لكن تلاحقنى أصوات من بقوا هناك، فى عرض البحر وعرض الموت، وصورة ذلك الطفل المتكور فى حضن أمه، وهى تحكى له قصة ليلى والذئب علها تلهيه عن شعوره بالغثيان على القارب وعن صراخ المهرب. أسمع صوتها يخفت بعد أن وقعوا فى البحر، وأسمع صرخات الطفل تعلو: ماما! ماما! ماما!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved