عندما يخنق التاريخ الحاضر والمستقبل

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 12 نوفمبر 2015 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

ما عاد تاريخ الأمة العربية موضوعا أكاديميا فى الأساس كما كان سابقا، وماعاد سردا ودراسة لأحداث ماضى هذه الأمة. وإنما أصبحت أجزاء منه ترسم ملامح الحاضر وتهيمن على أحداثه وأفكاره وسلوكياته وقيمه، أى تخطُت تلك الأجزاء الزمن الماضى لتصبح هى الحاضر.

لسنا معنيين بتعريفات التاريخ الكثيرة، ولا بالأهداف المتعددة المتباينة من وراء دراسة التاريخ، وهى نقاط كتبت عنها أعداد كبيرة من الكتب، وإنما تهمُنا تلك العلاقة المريضة العبثية بين حاضر الأمة العربية وتاريخها. دعنا نسرد أمثلة مزعجة خطرة ما عاد بالإمكان تجاهلها. لقد أصبح تسليط الضوء عليها ونقدها أمرا ضروريا، وذلك من أجل المساهمة فى احتواء الصراعات والخلافات المفزعة التى تعصف حاليا بمجتمعاتنا العربية المعاصرة.

هل يعقل أن تنشغل أمة فى حاضرها بخلاف سياسى وقع منذ خمسة عشر قرنا حول من يخلف النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد مماته لإدارة شئون الدولة الوليدة؟ لقد مات كل من كان معنيا بذلك الموضوع ومات معهم الموضوع نفسه، وأصبح الخلاف حول الأحقية الشرعية للخلافة الإسلامية، أتكون فى نسل آل البيت أم فى أفراد قبيلة قريش أم فى غيرهم، خلافا لا أهمية له فى العصر العربى الحاضر الذى يتطلع لأن يكون ديمقراطيا، وبالتالى لا يعطى أهمية إلا للمواطنة المتساوية ولا غير المواطنة، ويرفض أية شرعية للحكم أيُا كانت تسمياتها ما لم تقم على أسس ديمقراطية وبقبول صريح من المحكومين.

لكن تلك الطريقة العقلانية البديهية فى قراءة التاريخ تظل معزولة ومقموعة ليحل محلها صخب وتراشق طفولى وتشويه متعُمد وكذب وافتراءات يقرأها ويسمعها أو يراهما الإنسان يوميا فى ساحات المساجد والمآتم، وكل أنواع الإعلام، وعلى الأخص الفضائيات الموتورة، والجامعات والمدارس، بل الساحات والشوارع.

•••

ينطبق الأمر على أحداث مأساوية تاريخية كثيرة من اغتصاب للملك، إلى قتل للمعارضين، واجتثاث لنسلهم، إلى اعتداءات على مكة والكعبة وقبور الموتى، إلى ادعاءات بتفويضات من الله، إلخ.. من أحداث وخطابات مخجلة بربرية. لكنها جميعا لا تقرأ كأحداث مضت، يستفاد منها لأخذ العبر ولتجنُب العوامل والأسباب التى قادت إليها، وإنما كأحداث تجرى محاولات دؤوبة لبثُ الحياة والحيوية فيها، ليصار لاستعمالها فى صراعات سياسية انتهازية يومية تقضى على وحدة المجتمعات وتعايش، مكوناتها، كل مكوناتها، فى انسجام وتسامح وتكافل وسلام.

لنأخذ موضوع تاريخ الفقه الإسلامى. لقد كان ثمرة قراءات واجتهادات بشرية بحته. وكان جزء كبير منه انعكاسا لقضايا عصره الفكرية والمعيشية غير المعقدة، والصراعات السياسية، ومحدودية علوم ذلك العصر، وانتهازية بعض فقهاء السلاطين وضعف الورع الدينى لدى بعض الخلفاء.

لكن كل تلك الصور والانعكاسات التاريخية لا تزال معنا وتستعمل كل تفاصيلها الفقهية، بما فيها كل نقاط ضعفها، فى إثارة الصُراع الطائفى المجنون عبر كل بلاد العرب وكل بلاد الإسلام، وفى تغذية البربرية الجهادية التكفيرية وتبرير همجيتها، وفى صرف أذهان الأمتين العربية والإسلامية عن الخطر الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى لتنشغل بمعاداة هذه الدولة العربية أو الإسلامية أو تلك.

•••

تلك أمثلة قليلة من طوفان كبير لهيمنة التاريخ على الحاضر، وقد يمتدُ لينهك المستقبل.

ما الذى ينبغى فعله لمواجهة هذه الظاهرة العربية غير الطبيعية، والتى تكاد أن تكون فريدة زمانها فى عالمنا الحالي؟

أولاً ــ من المعروف أن كتابة تاريخ نفس الحدث من قبل عالمى تاريخ أو أكثر ستختلف فى تفاصيل السُرد وفى فهم الحدث وفى الخروج باستنتاجات. ذلك أن كتابة التاريخ من قبل المؤرخ لا يمكن إلا أن تتأثر بقناعاته الشخصية وبارتباطاته الاجتماعية والسياسية وبإيديولوجية مدرسة التاريخ التى ينتمى إليها.

ولقد جرت من قبل محاولات رسمية حكومية لتكوين مجموعات من المؤرخين لمراجعة التاريخ العربى وكتابته من جديد (على سبيل المثال فقط محاولة الحكم العراقى قبل الاحتلال الأمريكى). لكن المحاولات لم تكُلل بالنجاح المطلوب وبالمهنيُة الضرورية، وذلك بسبب المواقف الرسمية من كتابة التاريخ السياسى بحياد وشفافية.

ولعل الأقرب إلى المعقول أن تكلف المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة فريقا من علماء التاريخ العرب، مُمن يعرف عن نزاهتهم وكتاباتهم المهنية الرفيعة، للتفرُغ لبضع سنين لكتابة تاريخ موحد للأمة العربية يمتاز بالتحليل الموضوعى والابتعاد عن الإنحيازات القبلية والطائفية والعرقية.

المهم فى الموضوع كله هو توفُر روح الفريق والمهنية والحياد وتلافى بعض نقاط ضعف المحاولات الفردية السابقة المقدُرة الكثيرة من قبل أعلام المؤرخين، والمفكرين العرب الكبار.

إذا لم يكن بإمكان المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة إنجاز ذلك، بسبب بخل الحكومات أو مخاوفها المرضية، فإنه آن الأوان أن تنبرى مجموعة من أغنياء العرب المستنيرين بتكوين وقفيُة لقيام مؤسسة أهلية مستقلة تعمل على إنجاز تلك المهمة.

ثانيا – إذا تمُ ذلك الإنجاز مطلوب أن تعمل الجامعة العربية، وبالتنسيق الكامل مع المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، لإقناع جهات القرار العربية بتبنى أن يكون ذلك التاريخ هو المرجع الأساسى لكتب التاريخ المدرسية والجامعية والبحثية الأكاديمية.

فى هذا الوطن العربى، الذى تنتشر فى أرجائه بلادات القراءات النفعية الانتهازية لتاريخ امته، لتساهم فى نشر الموت والدُمار والعفن الفكرى والسياسى والدينى، نحتاج أن نواجه موضوع التاريخ بشجاعة وإرادة رسمية مجتمعية قوية تحررية، وذلك قبل أن تخنق أحداث التاريخ الماضية انفاس الحاضر والمستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved