«اعتقال الشيخ الرئيس»

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الثلاثاء 13 نوفمبر 2018 - 2:32 م بتوقيت القاهرة

«لا أحد، حين يحكى، يحكى كل شىء»، لكن الدكتور يوسف زيدان فى «فردقان ــ اعتقال الشيخ الرئيس» أحدث رواياته الصادرة قبل أيام عن دار الشروق، فتح شهية قرائه، لتتبع ولو جزء من الحكى، مستدعيا محطات لا نقول من حياة الشيخ الرئيس والطبيب والعالم والفيلسوف ابن سينا فقط، لكنها محطات تمس جوهر حاضرنا، وتفسر جانبا من محنة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأسباب تخلفنا ووصولنا إلى الحال التى نحن عليها.
فى قلعة «فردقان» كما تنطق بالفارسية، أو فردجان بالعربية، حسب الدكتور زيدان، قضى الشيخ الرئيس ابن سينا أياما طوالا فى الحبس عقب اعتقاله فى همذان «بأمر أميرى لمدة غير معلومة» وهو الرجل «جليل القدر» والمشهور «كحكيم بارع، وله عند الناس مقام عال».
بدأت مأساة حبس الشيخ الرئيس قبل وصوله قلعة فردقان، المكان الذى يزج فيه بالسجناء الأشد خطورة، ومن يخشى هروبهم، عند وادٍ غير ذى زرع، تحيطه القفار من كل جانب، عقب تأليفه كتاب «تدبير الجند والمماليك والعسكر»، عندما كان وزيرا فى بلاط شمس الدولة أبى الطاهر البويهى أمير همذان، ما ألب عليه الجنود ومهد الطريق إلى نفيه حينا وسجنه فى فردقان لـ«خمسة عشر ومائة يوم».
وبين الخيال الروائى والوقائع التاريخية يمضى الدكتور زيدان، فى وصف بديع، وكلمات تجمع بين الحكمة وروح الفيلسوف، فى تتبع أخبار ابن سينا فى محبسه بقلعة فردقان التى اكتشفت أطلالها بوسط إيران، وهى المكان الذى خط فيه الشيخ الرئيس، كما كان يلقبه تلاميذه، أجزاء من كتابه «القانون فى الطب»، وشهد ولادة ثلاثة من كتبه هى «الهداية، ورسالة القولنج، ورسالة حى بن يقظان»، بعد اعتقاله إثر خلاف سياسى بينه وبين أمير همذان «سماء الدولة».
ورغم هذا السيل الوفير من الإنتاج، يحدث ابن سينا نفسه عن جدوى الكتابة متسائلا «متى سينتهى هذا الكتاب (القانون)، إذا انتهى؟ ومتى سأنتهى من هذه الدنيا، ثقيلة الوطء سخيفة الإيقاع، وقد صارت ساعاتها مريعة، فلا مشتهى لى فيها، يشاغب باطنى فيشغلنى حينا عن فنائى المحتوم. ولا مطلب يذهب عنى ولو بالخادعة، يقينى باقتراب خراب هذا العالم.. أعالج مريضا، فتفتك بالألوف الأمراض والحروب وهوس السلطة وسطوة السلطة!».
وفى موضع آخر من الرواية يقول ابن سينا «من يجعل السلطة مناه، والمال، لا يكتفى ابدا». وبعيدا عن محاولات الدكتور زيدان تفسير ما اسماه خلال حفل اطلاق الرواية فى مكتبة القاهرة الكبرى قبل أيام، وما جاء فى الرواية ذاتها، «شغف ابن سينا بالنساء»، ما استدعى صنع شخصيات نسائية مثل «سندس وروان وماهتاب»، أجد قضية العلاقة بين المثقف والسلطة جديرة بالالتفات إليها، جنبا إلى جنب مع ما جاء فى الرواية عن جوهر فلسفة ابن سينا وآرائه.
وإذا ما تأملنا العمل سنجد العلاقة بين العلماء والمثقفين مع الأمراء والحكام حاضرة بقوة فى أكثر من موضع، ولعل سجن ابن سينا الذى تولى الوزارة مرتين خير برهان على تلك العلاقة التى تنتهى عادة بدفع المثقف الثمن من حريته، أو بالرضوخ لأصحاب السلطان.
فى مجلس الأمير مأمون بن المأمون الملقب بخوارزم شاه، الذى كان بلاطه يضم «نصف علماء الأرض» اجتمع العلماء الكبار الأربعون، وجلسوا بحسب الترتيب المعتاد عندما «دخل الأمير متجهما وفى يده مطوية، ولم يلق عليهم سلامه المعتاد. نظر الأمير فى الورقة المطوية، ومن دون أن يطيل فى التقديم أو التمهيد، قال: ورد إلى اليوم هذا الكتاب من السلطان محمود الغزنوى، يأمر فيه بترحيلكم فورا إلى عاصمته (غزنة) من دون إبطاء أو تأخير أو تعلل بأى عذر، فهو يريد أن يتباهى بوجودكم فى قصره».
حاكم تصفه الرواية على لسان ابن سينا بأنه «لم يُعرف عنه اهتمام بالعلم ولا العلماء، بل اشتهر بقتل مخالفيه»، يريد التباهى بالعلماء، ما يدفع الشيخ الرئيس إلى رفض تنفيذ الأمر قائلا: «عليه أن يبحث عن غيرى ليتباهى به ويفتخر، فلا أريد أن أكون زينة للقصور».
طبعا سيدفع ابن سينا ثمن رفضه هذا الشكل من العلاقة بين المثقف والسلطة، كما دفعها غيره عبر العصور لأنه «لا أمان للعلماء والفلاسفة فى كنف الأمراء والحكام، ولكن لا غنى لأولئك عن هؤلاء.. فما الحل؟». هذا هو السؤال الذى سيظل يبحث عن إجابة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved