أنا في انتظارك

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 12 نوفمبر 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

كل منّا في حياته محطات انتظار كثيرة، وكل انتظار تصاحبه دفقة مختلفة من المشاعر والأحاسيس. في طفولتنا ننتظر أن نكبر بفارغ الصبر، نضيف إلى أعمارنا الحقيقية شهوراً وربما حتى سنوات لأننا نرى الكبار أحراراً- هكذا تُصّور لنا براءتنا- يخرجون ويسهرون وينهرون ونعتذر إليهم ولا يعتذرون، ننتظر أن تكون لنا حكمتهم وخبرتهم وسنواتهم الكثيرة التي تجعلهم يرون ما لا نرى ويعرفون مصلحتنا أكثر مما نعرفها. مَن مِن الفتيات الصغيرات لم تدخل في حذاء أمها وتتمايل فوق الكعب العالي وكأنها تسير أعلى ناطحة سحاب؟ مَن منهن لم تختلس أحمر شفاه أو قطعة إكسسوار أو تضع خلف أذنيها بعض عطر الأخت الكبرى أو العمة أو الخالة؟ ونحن صغار كنّا ننتظر القادم بشغف لا مزيد عليه، ونشعر في اللحظة التي ننفخ فيها شموع عيد الميلاد وكأننا نطرد كل الأرواح الشريرة التي اعتاد أن يرقينا منها الجدود ويحصنونا بآيات القرآن والإنجيل. يقول الكبار إن العمر يجري لكننا لا نرى ما يَرَوْن، تزحف الأيام علينا بطيئة كالسلحفاة ولا تزداد قاماتنا طولاً إلا سنتي أو اثنين بالعافية، فهل يضحك علينا الكبار عندما يقولون إن العمر لحظة أم إن العمر يتحرك بسرعتين مختلفتين واحدة لهم والأخرى لنا؟ كل شيء جائز والمهم أن هذا الانتظار فيه أشياء كثيرة ومشاعر كثيرة.. فيه استعجال ولهفة وفيه تفاؤل غير مبرر بأن القادم أحلى. أذكر في طفولتي إنني كنت أتمني أن أكبر بسرعة لأستمتع بالفوازير والمسلسلات في شهر رمضان، وكان ذلك يحدث بالذات عندما يأتي رمضان أثناء العام الدراسي، وعندما كبرتُ اكتشفتُ أنني أخذتُ مقلباً كبيراً ومضت سنيني من أجل لا شيء، فلقد ألغوا الفوازير لأنها "تفسد الأخلاق" وأصبحت المسلسلات بلا طعم، وهكذا فقَد شوقي لأن أكبر سبباً مهماً من أسبابه.
***
تمضي بِنَا الحياة وندخل مرحلة الشباب فتتسع أمامنا مساحات الانتظار لأن علامات الاستفهام تكون كثيرة. يواجهنا في البدايات سؤال الحياة والموت، كلنا مر بهذه المرحلة وكلنا أعجزه سر الوجود، عجيب أمرنا.. أتكون صورة المستقبل أوضح في أذهاننا ونحن أطفال عنها وقد نضج إدراكنا؟ يحدث هذا.. وهكذا فبعد أن كنت أنتظر في طفولتي أن أكبر لأستمتع بتسالي رمضان صرت لا أعرف ما الذي ينتظرني حين أكبر، حتى إذا أتممت ستة عشر عاماً كتبتُ نصاً هو الأكثر سوداوية على الإطلاق وبدت قصيدة "لست أدري" لإيليا أبو ماضي هي النص الوحيد الذي يترجمني. ثم يأتي علينا وقت نتوقف فيه عن الانشغال بهذا النوع من الأسئلة، فانتظار إجابتها مرهق نفسياً بغير حدود، نتأقلم رغماً عنا مع المسلمات التي وجدنا أنفسنا عليها كما وجد آباؤنا أنفسهم من قبلنا، ونروح ننشغل بانتظارات أخرى ممكنة، فالحياة بلا انتظار شيء ما مملة جداً. السفر انتظار.. والحب انتظار.. والمحن والفرص انتظار، ولكل منها شعور يشبهه. فضول محبب هذا الذي يساورنا عند كل سفر، فإن كان سفرنا إلى بلد جديد فهو فضول استكشاف المجهول بأماكنه وناسه وعاداته ومشترياته، وإن كان سفرنا إلى بلد قديم فهو فضول التطلع إلى متعة مضافة لم تتحقق من قبل أو إلى تغيير الذكريات السابقة مع هذا البلد إلى الأفضل. السفر بطبيعته هو جزء من المستقبل، وفي بعض الأحيان قد يكون هو كل المستقبل، أو ليست تنبئك أحياناً قارئة الكف أو الودع أو الفنجان بأن أمامك سكة سفر ولا تزيد حرفاً؟ يحدث هذا وكأن الجملة السابقة كافية بذاتها وشارحة نفسها بنفسها، أو كأنها تلخص لك كل ما تريد أن تعرفه عن المستقبل.. مستقبلك.
***
ثم إننا ننتظر الحب، هذا الشعور الذي قد نكتشفه بالصدفة في اللحظة التي نلتقي فيها كائناً ما يتحقق معه تمامنا، ومن بعد تتوالي اللقاءات مع الحبيب مصحوبة بشوق بديع. يقول رامي: ولما قرّب ميعاد حبيبي ورحت أقابله.. هنيت فؤادي على نصيبي من قرب وصله، الله الله. لكن الحب ليس تلقائيا بالضرورة فقد يحدث أن يكون شعوراً مُصّنعا تصنيعاً ذاتياً في انتظار الشخص الذي يتوجه إليه، وصدق نزار إذ قال: الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه. في هذه الحالة الأخيرة يبدو الحب الهائم في داخلنا كما لو كان هو الدور الذي يبحث عن بطل عند هيجل ليربط بذلك بين الحب والفلسفة السياسية. المهم في الحالتين إننا في انتظار المحِب نكون ألين وأرهف وأزهد من المعتاد، دموعنا قريبة وقلوبنا مثل الهواء. يرتفع لدينا منسوب التسامح مع الجميع ونجد في الغد ما يستحق البِشر والتفاؤل. أما الفرص والمحن فانتظاراتها بلا عدد فسُنة الحياة أنها تمضي ما بين هذه وتلك، نحتاج إلى صبر معتبر ونحن ننتظر بشارات النجاح أو العمل أو الأمومة أو الأبوة وقد خُلِق الإنسان عجولاً، وفي الأثناء يعتمل في داخلنا مزيج معقد من القلق والرجاء، لكن محنة المرض هي الأصعب على الإطلاق فكم من ليلة بدا فيها انتظار الفجر أشبه ما يكون بانتظار المعجزات. أحفظ عن أمي مثلاً شعبياً بليغاً كانت تردده في وصف صعوبة انتظار المريض طلوع الشمس، فكانت تدعو لجارنا أو قريبنا المريض وتقول "ربنا يقصّر ليلته بالعافية"، وكأنه إلى هذا الحد يحتاج افتكاك النهار من الليل إلى ما يشبه المعركة الحربية حتى نلج إلى النور والحركة والونس والاهتمام.
***
أيها القدر المخبوء أنا في انتظارك بحلوك ومرك، بما تبقى لي منك قل أو كثر، أنا في انتظارك وقد مررتُ بكل الأحوال وتقلبتُ بين كل المواقف وما عاد بإمكانك إدهاشي أو مفاجأتي بالأحسن أو الأسوأ مثلما كنت تفعل معي أيام زمان. إنها ليست ميزة بالتأكيد أن يكون كله سيان وأن نصل إلى وضع: لا شيء يهم، لكن بعد أن مضت هذه السنوات الطويلة من العمر فلقد صارت كل أنواع المشاعر وراء ظهري.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved