الأصل مصري

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 12 نوفمبر 2021 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

بلا شك أن البلدان التى تتكون من جذر واحد (أصل بعينه الفراعنة) مثل مصر، لها سمات واحدة أصيلة. وعلى الرغم من أن شعوبًا كثيرة غزت مصر على مدى الأزمان، إلا أن معظم الذين دخلوا مصر كغزاة، أو بطرق أخرى لأسباب متعددة ومتنوعة عاشوا فيها وتزاوجوا منها، إلا أن الملاحظ أن المغتربين جميعًا تمّصَّروا ولم يُضيفوا للجنس المصرى القديم أو المعاصر أو للإنسان المصرى بشكل عام ما يجعله مُتغربًا عن أصوله، فعندما ننظر إلى التماثيل المصرية القديمة والصور المنقوشة على الجدران ونتأملها نجدها قريبة جدًا من الإنسان المصرى المعاصر، اللون الأسمر الفاتح والأنف المتميزة والقامة... إلخ، وهذا يحدث عادة مع الشعوب العريقة المتجذرة فى الأرض التى وجدت فيها، فهى التى تمتص الغزاة من جميع الأعراق والأجناس فيتحولون مع الزمن إلى مصريين حقيقيين أصليين، وهذا حدث مع الهكسوس واليونانيين والأتراك والإنجليز والفرنسيين... إلخ، لكن رحل الجميع وبقى رجل الشارع المصرى الأصيل. ورغم أن المنطقة العربية تتحدث العربية، وحضاراتهم متقاربة، إلا أن المصرى يختلف عن الشمال والجنوب الأفريقى، ويختلف عن دول الخليج. لذلك فشلت كل محاولات الاتحاد الاندماجى وعلى رأسها الوحدة بين مصر وسوريا عام 1968م وحدث الانفصال بعد ثلاث سنوات فقط.
•••
أما الولايات المتحدة الأمريكية والتى تم تأسيسها منذ ما يقرب من خمسمائة عام فقط فقد كان سكانها الأصليون من الهنود الحمر، وهنا قامت معارك ضخمة لإبادة هذا الجنس وذلك من القادمين من خارج (المهاجرون)، والذين جاءوا من أوروبا خاصة إسبانيا وإيطاليا... إلخ، ثم جاء الآسيويون والأفارقة وكذلك من أمريكا اللاتينية وقطنوا بجوار الأوروبيين، من هنا بدأت الاجتهادات فى كيف تتعايش كل هذه الأجناس المختلفة والمتنوعة وتكون دولة على نفس الأرض والمكان رغم اختلاف اللغة والجنس والعنصر والعادات والتقاليد... إلخ.
بالطبع كان العدد الأكبر من الأوروبيين ــ كما ذكرنا ــ ولذلك كانت لهم اليد العليا فى الإجابة على هذا التحدى. من هنا كان يجب أن تُعمم لغة الأغلبية وكانت الإنجليزية، لكن بقى السؤال عن كيفية التعايش رغم اختلاف الأصل واللون والعرق والعادات والتقاليد... إلخ، وهنا برزت نظرية «بوتقة الانصهار». وبوتقة الانصهار تعنى أن هذه الشعوب المختلفة فى عاداتها وتقاليدها ولغاتها تنصهر معًا فى بوتقة واحدة. والبوتقة هى عبارة عن وعاء فُخارى يوضع فيه أجزاء من خامات ومعادن متنوعة ومتعددة، ويتم إشعال النار فيها فتتحول إلى سائل واحد مُدمج من كل هذه المعادن كما يفعل الصائغ الفنان الذى يخلق قلادة معدنية تتكون بنسب معينة من ذهب وفضة ثم تضاف بعض معادن أخرى لحفظ وتقوية كيانها كالنحاس والقصدير، وبعد الانصهار يأتى التشكيل قبل أن يبرد المعدن ويتجمد، وبذلك تختفى كل مادة أصيلة (ذهب ــ فضة ــ برونز... إلخ) ويظهر معدن آخر جديد يضم كل هذه المعادن بنسب مختلفة فينتج عنه كيان لمعدن جديد غير مسبوق وبملامح وشخصية متفردة. والمقصود بكل هذا تجميع كل الشعوب رغم حضاراتهم وخلفياتهم ولغاتهم المختلفة والمتعددة والمتنوعة وصهرهم معًا لإنتاج شعب جديد مختلف ومتميز، يتكلم الإنجليزية بلكنة مختلفة عن إنجليزية إنجلترا، بل ومختلفة عن كل اللكنات الإنجليزية الأخرى، مع خلق حضارة إنسانية جديدة غير مسبوقة تتفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى بحيث تذوب تلك الحضارات على الأرض الأمريكية فى الحضارة الجديدة، والتى تتأسس على الكتاب المقدس الذى تنادى نبوءاته بأرض موعد فى نهاية التاريخ، ويذكر الكتاب المقدس أن هذه الأمة تأتى من كل أمة وشعب ولسان (لغة) وجنس ولون لكى تصير أمة واحدة تؤمن بالإله الواحد. بالطبع هذه الآيات والنبوءات عن الأرض الجديدة والسماء الجديدة كان المقصود بها فى الكتاب المقدس وبوضوح شديد نهاية العالم (يوم القيامة).
•••
على هذا النَّسق اعتبر المؤسسون أن أمريكا هى الأقرب لهذا التصور، أن يأتى إليها شعوب العالم مع خلفياتهم وألوانهم ولغاتهم وحضاراتهم، وتكون هى أرض الموعد أو الجنة التى على الأرض والتى فيها تنصهر كل هذه الخلفيات معًا طبقًا لنظرية «بوتقة الانصهار» والتى تتكون من: لغة إنجليزية بلكنة أمريكية وديانه مسيحية مرجعها الكتاب المقدس. لذلك لابد أن يُقِسم رئيس الولايات المتحدة عند تسلمه الرئاسة على الكتاب المقدس... إلخ.
ولقد استمر هذا الطرح بنجاح لمئات السنين، ومن خلاله تم تحرير العبيد على يد إبراهام لنكولن، لكن مع مرور الوقت وازدياد عدد الشعوب المهاجرة غير البيضاء وتمسكهم بحضاراتهم الأصيلة فشلت نظرية بوتقة الانصهار وظهرت نظرية جديدة دعيت بـ «طبق السلطة» وهذه النظرية تستبعد الانصهار وتتبنى فكرة أن طبق السلطة يحتوى على أنواع كثيرة ومتعددة من الطماطم والخيار والبصل... إلخ، لكن يوضعون جميعًا فى طبق واحد يكملون بعضهم بعضًا ليكون الطعم والمذاق متفردًا ومختلفًا ولا تستطيع أن تصل إلى هذا الطعم بمفردك، وفى نفس الوقت تحتفظ بشخصيتك.
من هنا برزت فكرة ثالثة أكثر نضجا فقد انشغلت أمريكا حديثًا بما يُسمى «تحسين الوعاء الجينى للأمة الأمريكية» فالفكرة ليست مجرد إضافة أعداد من المهاجرين بعد أعداد، وكبديل لبذل الجهد فى عملية الانصهار خاصة أن هناك شعوبا رافضة بطبيعتها أن تنصهر فى البوتقة الأمريكية، وأيضًا كبديل لصحن السلطة، ظهرت دعوى حديثة حاليًا فى المجال الأمريكى هى منع المهاجرين المنحدرين من أصول متدينة وعريقة حضاريًا، وقصر الهجرة على المهاجرين من مجتمعات تشارك أمريكا فى صفاتهم البيولوجية. وملخص هذه النظرية والتى أطلق عليها حديثًا «الحتمية البيولوجية» أنه مثلما تنتقل الصفات الخارجية للإنسان مثل لون البشرة والتكوين العام للجسم من الآباء للأبناء بواسطة الجينات، وكذلك الصفات السلوكية والذهنية، فالعائلات الراقية والذكية والمهذبة تنتقل فيها هذه الصفات من جيل إلى آخر، والعكس صحيح فالذين آباؤهم وأجدادهم من المنحرفين والأغبياء والمجرمين يحملون صفات آبائهم وأجدادهم. ومن الأمور التى نعتبرها نحن غير إنسانية فى مصر كمسيحيين ومسلمين، تبنت ٢٨ ولاية أمريكية قوانين تسمح بالتعقيم الإجبارى للأفراد المصنفين كفاشلين أو معاقين جينيًا، لكن انتهى هذا الأمر، بسبب دراسة أعداد المهاجرين ونوعياتهم، حيث اكتشفوا أن معظم المهاجرين الأغبياء والمنحرفين كانوا من جنوب وشرق أوروبا، وليسوا من أفريقيا والشرق الأوسط، وهؤلاء يشبهون الأمريكان فى معظم صفاتهم الثقافية والجسدية، بل ومنهم مسيحيون يحملون بشرة بيضاء.
وهنا ظهر العامل الحاسم للقبول والرفض من شرق وجنوب أوروبا، فليس الدين ولا الطائفة، فمعظم هذه البلدان ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية بينما الإنجيلية البروتستانتية هى الطائفة الغالبة فى الولايات المتحدة، وهكذا ــ عزيزى القارئ ــ بشكل مقصود أو عفوى تكتشف الكراهية التى مصدرها ليس مجرد خلاف دينى، بل خلافًا طائفيًا أو مذهبيًا، وتتعجب كيف أن أعظم دولة فى العالم وأغناها وأكثرها علمًا تفكر بهذا الأسلوب المتدنى فى التفرقة ليس فقط بين الأديان بل ــ والعجب العجاب ــ بين الطوائف والمذاهب فى داخل الدين الواحد. من هنا علينا أن ندرك أن أى جدل فى هذا السياق سوف يؤدى بالضرورة إلى إساءة للأمريكان جميعًا أو للقاطنين فى أمريكا، لكن لحسن الحظ أن التيار الكاسح فى أوروبا وأمريكا بل وفى معظم دول العالم هو رفض فكرة البحث عن النقاء العرقى أو الدينى، وهو ما ترفضه دولة واحدة فى العالم هى إسرائيل، وذلك فى الوقت الذى تتوافق دول العالم حاليًا حول خطورة تلك الأوهام، وأن النظام الدولى الحالى يميل بشدة إلى رفض مثل هكذا دعوات حتى لو كانت مخففة بل إن غالبية دول العالم أدركت مدى خطورتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved