لم تعد الثورة تضحك كما كانت

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الإثنين 12 ديسمبر 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

ربما تمر سنوات طويلة قبل أن يكتشف علماء الاجتماع كيف بدا المصريون فى ثورة يناير جميعهم ضاحكين بوجوه مبتسمة، وتعليقات ساخرة، ولافتات تحوى كلها أفيهات كوميدية تناقلتها وسائل الإعلام العالمية، بل وأصبحت ضحكات التحرير وكأنها علامة مسجلة فى انتفاضات شعبية عديدة، وكيف كانت دقات الطبلة ترج بعض أرجاء الميدان طوال ساعات اليوم، والرقص أضحى بندا فى جدول أعمال الثورة اليومى. وسوف يكون على علماء الاجتماع أن يسترجعوا كثيرا من المراجع ليعرفوا كيف لم تنجح موقعة الجمل بكل قسوتها وضراوتها فى خفض سقف ضحكة التحرير. وكيف لم تستطع سماجة خطابات المخلوع ومراوغته المستمرة يوميا فى إفساد خفة دم الشعارات فى الميدان، وحتى المشهد المهيب لتوديع شهداء الميدان لم يجعلهم يكفوا عن إطلاق الإفيهات الجالبة للبهجة وسط وجع القلوب على الدم الذى سال فى الميدان. كل هذا لم يسرق من الثورة ضحكتها، بينما موقعة «محمد محمود» استطاعت.

 

فثورة يناير كانت ثورة ضاحكة بامتياز، بينما جاءت الموجة الثانية من الثورة فى نوفمبر الماضى متجهمة غاضبة. فلم يعد أحد يسير بلافتة تدهشك خفة ظلها، ولم يهتف شاب إلا ووجدته عابسا، وعينيه دامعتين. ولم تحمل هتافات الثائرات اللاتى دخلن عراك الهتاف هذه المرة بقوة، إلا وكانت مليئة بالمطالبة بالقصاص لحق الشهداء. ولم يعد هناك جرافيتى على الحائط، إلا وتوعد باستعادة الحقوق بالقوة. ولم تعد الضمادات حول الأعين تجلب دموع ثوار الميدان، وتجعلهم يربتون على أكتاف أصحابها متمنين لهم الشفاء، كما كان عليه الحال فى يناير. بل كانت تدفع إلى القسم بالأخذ بالثأر لمن فقدوا أعينهم. ولم تعد تسمع دقات الطبلة قط، فقد أصبحت محرمة ميدانيا، كما لم يعد أحد يجرؤ على الرقص ولو مرة واحدة.

 

الثورة أصبحت غاضبة، والثوار لم يعودوا يستعينون على إنجاح ثورتهم بالضحك. وهو ما لم يستطع كمال الجنزورى رئيس الوزراء العائد توا من عهد مبارك الكريه أن يفهمه. وتصور أنه يمكن أن يفض اعتصام مجلس الوزراء فى ربع ساعة، ولكنه لا يريد أن يفعل ذلك تعطفا وتفضلا منه. ولكنه لو قرأ ما كتبه الثوار على حائط مجلس الوزراء لفهم أنه قد يعود هؤلاء إلى بيوتهم اليوم أو غدا، وقد يأمر هو بمحو كل ما كتبوه على حيطان المجلس، حتى لا يكون شاهدا على ثورتهم، ولكنه لن ينجح فى تهدئة غضبهم، أو فض ما تجمعوا عليه، ولن يمحو رغبة المعتصمين فى الثار لشهداء زاملوهم فى صقيع يناير، وأمطار نوفمير. والأهم أنه لن يعيد للثورة ضحكتها. فالثورة لن تضحك ثانية.

 

وقد يكون من المفيد لرئيس الوزراء أن يستغل وقت ممارسة عمله الاضطرارى خارج مبنى مجلس الوزراء المحاصر، ويطلب من معاونيه أن يسجلوا له ما كتبه الغاضبون من شعارات على حوائط المجلس قبل أن يقوموا بطمسها حتى لا تخدش عين رئيس الوزراء، حين يدخل مجلسه لأول مرة، كما سيكون مهما جدا أن يسجلوا لمعالى رئيس الوزراء الهتافات التى رددها المعتصمون طوال أيام اعتصامهم، ولعل أيضا التقاط صور تذكارية لوجوه المعتصمين تكون عونا للمجلس الجديد للتعرف على الغاضبين عليهم، لأنهم عادة لا يصادفهم فى طريقهم إلا الراضون بهم الذين تمتلأ قلوبهم بنبض ميدان العباسية.

 

الغاضبون كتبوا على حائط المجلس «نحن لا ننهزم. نموت أو ننتصر». «اقتلنى، قتلى ما حيعيد دولتك تانى.. باكتب بدمى حياة تانية لأوطانى». «دم بدم. رصاص برصاص، احنا كرهنا الظلم خلاص».. «عايشين فى ذل وخنوع.. وقلبنا موجوع.. والثورة هى الحل وهو ده الموضوع». ربما يسجلوا لك الكلمات الغاضبة، ولكن لن يسجلوا لك غضب الأيادى اللى كتبتها.

 

ومن الممكن طبعا أن يسجلوا لمعاليك الهتافات التى علت أمام مجلسكم عندما انطلق الصوت «على، وعلى، وعلى الصوت. يا نحررها يا إما نموت».. «الحكومة بتموتنا برضه حنكمل ثورتنا».. «لساها ثورة يناير.. لسه الشعب دمه فاير».. «هات ابنك نفقع له عينه، وبالغاز حنرميه ونقولك آسفين عليه. آه لو كان ابن المشير.. عد وشوف كم رقبة تطير عليه».. سوف يسجلون لك الهتاف، ولكن لن يستطيعون وصف غضب أصحاب الحناجر.

 

وقد تنجح كاميرا مجلس الوزراء فى تصوير وجوه المعتصمين ولكن لن تستطيع أن تصور ما تمتلأ به النفوس من غضب، هل تستطيع الكاميرا أن تنقل لرئيس الوزراء أن عبدالعال جابر من بنى سويف العامل الأرزقى فهم من «كتر القعدة مع الناس التانية اللى جايه من المنصورة وأسيوط وسوهاج والأقصر عرفت أن همنا واحد، وإن لو كل الخلق قعدت فى البيت محدش حياخد حق. وإن الواحد ما بيطلعش الشارع إلا لما يفيض به الحال، هو بعد ما نوصل لحد أن الواحد يقعد يوم بحاله فى الشارع علشان أنبوبة بوتجاز فاضل إيه علشان نثور؟. الغريب إننا افتكرنا أن الثورة حتنظف مصر، لكن العصابة القديمة بتلم نفسها تانى زى العنكبوت. وفجاة نلاقى كل حاجة زى ما كانت».

 

ولن تستطيع الكاميرا مهما كانت حساسية عدستها أن تقول لرئيس الوزراء إن خالد محمد خراط المعادن المقيم فى شبرا نام فى الإعتصام بعد أن تعلم فى الميدان معادلة بسيطة، وأصبح يرسمها على ورقة يحملها وبيقولها لكل من يسأله «إن 95% من المصريين يحصلون على 5% من الخير اللى فى مصر. والخمسة الباقية تاخد باقى الخير كله. أنا أتعلمت السياسة من الشارع. وعرفت من الشارع إن الحرية لا تروى إلا بالدماء. ده مش كلام إنشاء. كل ثورات العالم لها ضحايا. وعلى فكرة الموجة الثالثة ستكون القاضية صدقونى».

 

الكاميرا سوف تنقل ملامح عم حمدى بهجت صاحب ورشة فى المرج ولكن لن تقول لمعالى رئيس الوزراء أنه لايصدق «أن البجاحة تصل إلى حد أننا نلعب ماتش كورة مع النظام القديم بأكمله، فنفاجأ بأن المجلس العسكرى أحضر حكما هو كمال الجنزورى يعنى ينتمى إلى الفريق الأخر، ثم يفرضه على الملعب، ويجبرنا نحن الثوارعلى النزول للملعب، وقبول هذا الحكم. ويرفض تماما أى حكم أخر تجيبه الناس باختيارها. لعب أيه ده؟. لازم الماتش يتلغى. يعنى عايزين يفهمونا أن الجنزورى ماكنش يعرف الفلوس بتروح فين. ده أحنا ما عرفناش الفشل الكلوى إلا على أيامهم».

 

ألم أقل لكم أن الثورة لم تعد تضحك.

 

 

okamal@shorouknews.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved