بناء الإرادة الوطنية للنهوض

آخر تحديث: الخميس 12 ديسمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أصدرت منذ أسبوعين مؤسَّسة الفكر العربى العدد السادس من تقريرها التقييمى السنوى عن حال الوضع الثقافى العربى. وقد أظهر التقرير وجود إشكالية فى رباعية التعليم والبحث العلمى وسوق العمل والتنمية. فمستوى التعليم فى البلاد العربية يتراجع بشكل مقلق، وهذا بدوره ينعكس سلبا على نوعية وتخصُّصات ومستويات القوى العاملة العربية التى لا تتلاءم وحاجات سوق العمل. وما يصرف على البحوث فى البلاد العربية هو أدنى من المعدَّل الوسطى العالمى. وبالطبع فإن النواقص الثلاثة تجعل التنمية، وعلى الأخص الاقتصادية، متعثرة.

ويخلص التقرير إلى وجود حاجة لإصلاح تلك الرباعية. وهذا استنتاج وصل إليه العديد من تقارير التنمية العربية عبر العديد من السنين، ومع ذلك ظلت النواقص فى ازدياد وتعثّر الكثير من محاولات الإصلاح.

إذن، أين تكمن المشكلة؟ إنها ليست فى وجود مشاكل ونواقص فى كل ساحة من السَّاحات الأربع، وإنَّما فى غياب إرادة وعقلية سياسية وطنيّة تنموية تربط السَّاحات الأربع وتجعلها فى خدمة بعضها البعض.

•••

دعنا نبيٍّن ما نعنيه من خلال سرد لتجربة حدثت فى الواقع، فى كوريا الجنوبية. وهى تجربة تظهر كيف تؤدٍّى عملية الرّبط للسّاحات الأربع إلى نتائج مبهرة، إذا قادتها إرادة سياسية وطنية.

فى بداية السٍّتينيات من القرن الماضى كانت كوريا الجنوبية بلدا فقيرا متخلٍّفا يعيش على تصدير الأسماك وبعض المعادن وألبسة ذات جودة وقيمة متواضعة. لكن قيادتها السياسية، وكانت آنئذ ديكتاتورية عسكرية، قررت تحويل البلد من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة ومنافسة. كان المدخل لذلك التحوَّل هو العمل فى آن واحد، وبترابط وتناغم، على إحداث تغييرات جذرية فى ساحات التعليم والبحوث والصناعة.

إصلاح التعليم قاد إلى تهيئة عمالة متميٍّزة فى مستواها العلمى والتدريبى، وبالتالى القادرة على الانخراط فى خدمة المشاريع الصناعية الكبرى الجديدة مثل صناعة الصّلب والسُّفن الكبيرة الحديثة فى البداية، ومثل صناعة الإلكترونيات ذات الجودة العالمية العالية فيما بعد ذلك.

ومن أجل أن تكون تلك الصناعات ذات جودة عالمية وقادرة على المنافسة صرفت الحكومة الكورية الجنوبية مبالغ هائلة من أجل قيام مراكز بحوث مساندة ومطوٍّرة ومجدٍّدة للصناعة الكورية. وهكذا ترابطت بصورة محكمة عملية إصلاح التعليم مع عملية تطوير البحوث العلمية والتكنولوجية مع عملية إصلاح سوق العمالة، لتصبَ جميعها فى خدمة نهضة صناعية كبرى.

بتلك الإرادة العقلانية السياسية المخطَطة جرت إصلاحات شاملة فى وقت واحد، ومن أجل أهداف تنموية محدَدة، أدت إلى خروج كوريا الجنوبية من العالم الثالث المتخلف إلى العالم الأول الصناعى المتقدم خلال ثلاثين عاما.

إذن، إذا عدنا إلى الأرض العربية، إلى عشرات التقارير التى تتحدث عن فواجع فى ساحات التعليم والبحوث وسوق العمل والتخلف التنموى فإن الجواب لن يكون بإجراء إصلاح محدد هنا أو تغيير شكلى هناك، وإنَما بوجود مشروع وطنى ستخدمه تلك الحقول من بعد إصلاحها.

•••

قلب الموضوع إذن هو وجود إرادة وطنية تبنى مشروعا وطنيا تنمويا يستفيد استفادة إيجابية إبداعية من منتجات التعليم الجيٍّد ومن نتائج البحوث المرتبطة بحاجات المجتمع. وهى إرادة وطنية ستقوم بوضع استراتيجية تؤدٍّى إلى تغييرات كبرى فى بنية الاقتصاد ليكون اقتصادا إنتاجيا ومعرفيا وخدميا رفيع المستوى وذا توجُه إنسانى وغير خاضع لأهواء قلة فاسدة جشعة. وهى إرادة وطنية ستلعب دور المساند والمحفَز والحامى لذلك المشروع التنموى الوطنى إلى أن يقوم على رجله ويصبح منافسا فى ساحات العولمة.

وبالتالى فإنها إرادة وطنية لا تخضع لإملاءات مؤسسات الخارج التى تخدم الرأسمالية العولمية المتوحشة حتى ولو جاءت على حساب المصالح الوطنية المشروعة.

•••

هنا، دعنا نكون صريحين فنقول إن وجود هكذا إرادة وطنية عقلانية مخططة قادرة على الاستفادة من تلك الإصلاحات المطلوبة فى رباعية التعليم والبحث وسوق العمل والتنمية.. إن وجود هكذا إرادة غير متوفَرة حاليا فى أرض العرب. لهذا السبب تمرُ السنون دون أن تجد تقارير التنمية والثقافة من يستفيد منها ويحوٍّل توصياتها إلى فعل فى الواقع.

لقد توفَّرت مثل تلك الإرادة بتلك المواصفات، باستراتيجية تنموية واضحة المعالم، فى كوريا الجنوبية فنجحت فى النهوض. والأمل فى أن تنتج ثورات وحراكات الربيع فى النهاية مثل هكذا ارادة عربية قادرة على النهوض. إنه أمل يجب أن نعمل من أجله مهما كثرت العقبات والتحديات.