«حياة خفية».. أسئلة الحق والخير والجمال

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 12 ديسمبر 2019 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

ليس الجديد فى هذا الفيلم العظيم أن تقدم رجلًا يتمسك بمبادئه التى يؤمن بها، ويدفع الثمن راضيًا، فالتاريخ والفن قدَّما لنا نماذج شهيرة ملهمة، من سقراط إلى الحسين، وصولًا إلى رئيس أساقفة كانتربرى توماس بيكيت، ولكن الجديد حقًا أن بطل فيلمنا إنسان عادى شبه مجهول، واحد من الناس، ولكنه يمتلك منطقًا مكتسحًا رغم بساطته، والجديد أيضًا أن القصة ذات الأصل الواقعى تفتح باب أسئلة القيم الإنسانية الكبرى كلها كالحق، والخير، والحرية، والجمال، والأهم من كل ذلك الطريقة التى قدَّم بها مخرج الفيلم الكبير وكاتبه تيرينس ماليك أسئلته: ثلاث ساعات من المتعة البصرية والعقلية والوجدانية معًا.
فيلم «حياة خفية»، يمكن تلخيص حكايته فى سطر: فلاح نمساوى اسمه فرانز جاجرشتاتر رفض أن يُقسم الولاء لهتلر، ورفض أن يشارك فى الحرب تحت راية النازيين، ثم دفع ثمن ذلك، ولكن هذه الكلمات القليلة تتحول إلى ملحمة محورها الصورة بالأساس، وبينما تدور الأحداث فى أكثر من مكان، مثل قرية راديجوند النمساوية البديعة، وقاعدة إنس العسكرية، ومدينة برلين، فإن تيرينس ماليك يعتبر هذه الأماكن مكانًا واحدًا، ومن خلال مونتاج شديد التعقيد والبراعة، ينتقل بينها كيفما شاء، معتمدًا على المونتاج الذهنى، الذى يربط بين اللقطات المتفرقة ليخلق معنى جديدًا، وكأننا أمام لوحة واحدة تحقق جدلًا فذًا بين الأخضر والسماوى فى قرية فرانز، والأسود والرمادى فى سجون النازية.
ماليك ليس مشغولًا بأن ترى أبطاله وهم يتكلمون، ولكنه مشغول بإيجاد المعادل البصرى والسمعى (صمتًا وحوارًا وموسيقى ومؤثرات) للتعبير عن معنى المحنة والتجربة، ومذاق المتعة والألم، هنا عظمة الفيلم وتفرده، بل لعل فيلمنا هو العمل النموذجى لسينما الشعر، أى تحويل الأفكار إلى لغة السينما فى أرفع صورها، وأكثرها ابتكارًا، وخلق مجازات وتشبيهات وإيقاعات من بناء المشاهد وتركيبها معًا، بحيث تتحول الحكاية إلى قصيدة مرئية ومسموعة فى سبيكة واحدة.
يتعمد ماليك أن يستخدم العدسة الواسعة، وزاوية الكاميرا المنخفضة، ويفرش صورته على شاشة عريضة، باستثناء مشاهد الحرب وهتلر التسجيلية، التى تعرض فى حجم الشاشة الضيقة، هذا الاختيار على مدار الفيلم كله جعل شخوص الحكاية عمالقة، وكأننا أمام صراع أسطورى، تتسع الرؤية دائمًا لتظهر السماء فى معظم المشاهد، قوية هائلة ولا حدود لها.
الطبيعة فى الفيلم ليست مجرد لوحة، رغم جمال مشاهدها الخارق، ولكنها المقابل الصريح للشر وللقبح، وهى أيضًا المدرسة التى تخرج فيها هذا الفلاح المدهش، صاحب الموقف الفطرى الفذ، والذى نسمع صوته فى البداية وهو يحلم بأن يسكن بعيدًا فوق شجرة، وأن يحلّق مثل الطيور.
يعتمد بناء السيناريو على لوحاتٍ متتالية تنتهى كل منها بإظلام، والصورة من القوة بحيث لم يحتج ماليك أن يعنون كل لوحة، والطبيعة وأسرة فرانز يقتحمون كل المشاهد تقريبًا، ورسائل فرانز، وردود زوجته فانى عليها، تتحول من نصوص سردية مباشرة إلى قصائد حقيقية، بعد إعادة تقطيعها، وإيجاد المعادل البصرى والسمعى لها، وبعد ترجمة معانيها من خلال أدوات السينما.
أما منطق فرانز فهو شديد القوة، لا هو زعيم سياسى، ولا هو مصلح اجتماعى، ولا هو يطلب من غيره أن يفعل مثله، ولكنه ببساطة لن يفعل إلا ما يؤمن به، ولن يفعل ما يعتقد أنه شر، ولن يترجم لسانه إلا ما يؤمن به، وهو يريد أن يعيش فى هذه الجنة الأرضية، حيث قريته وزوجته المحبة وأمه الصبورة وبناته الثلاث، وحيث البيت والخضرة والسماء والسعادة الملموسة، ولكن معيشته لن تكون أبدًا على حساب صدقه مع نفسه، فما معنى الحياة إذا كسبت العالم وخسرت نفسك؟
فرانز أقرب إلى تعاليم المسيحية من الأسقف والقس، وكل الذين يتحايلون لإنقاذ أنفسهم، ولإنقاذ فرانز نفسه، بل ويبدو فرانز كما لو كان مسيحًا عصريًا، يحمل صليبه على كتفه، لا يهرب، ولا يتراجع، متحملًا الألم والعذاب بصبر القديسين، نرى فعلًا صليبا عليه المسيح فى حجرة نوم فرانز، وهو فى أسئلته عن معنى الخير والشر، يذكرنا بسقراط العظيم، قد لا يستطيع أن يغير شيئًا، وقد لا يسمعه أحد، ولكنه لن يسمح لأحد بأن يفسده، ولن يقبل لنفسه أعذارًا إذا فعل ما لا يؤمن به.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved