جمهورية عساكر(7)

وحيد حامد
وحيد حامد

آخر تحديث: الأربعاء 13 يناير 2010 - 9:17 ص بتوقيت القاهرة

 
حالة من الإحباط القهرى سيطرت على «حسين عساكر» لأنه وضع كل آماله أن تصله لحمة العيد بواسطة دار الرمان، ولكن دار الرمان أرسلت له من يطلب تسعمائة جنيه ثمن صك الأضحية،

ولأن الأضاحى ذبحت وتم توزيع لحومها فإن إمكانية حصوله على شىء منها أصبح مستحيلا، نفس الحالة أصابت مندوب جمعية دار الرمان، فقد انتقل حاملا الصكوك، وتعثر فى الدروب والأزقة والشقوق حتى وصل إلى هدفه، فإذا به لا يجد شيئا وهو الذى يحصل على عمولة عن كل صك يحصل قيمته، رجلان سكنهما الإحباط فى آن واحد، فنشبت بينهما معركة جدلية كلامية، عمل مجدى الفرخ على تسخينها عندما زعق فى عساكر:

ــ عامل لى عنطوز.. اشرب يا حلو وادفع للراجل.. عامل لى باشا وانت شحات جربان.. بتطلب صدقة اللحمة هوم
ديلفرى.. طول عمرك فقرى.. جتك البلا..
وهنا تكهرب الجو تحول الأمر إلى تشابك بالأيدى، وبالطبع صرخت السيدة عساكر وهى تصيح مولولة:
ــ الحقونا يا خلق هوه.. ناس مفترية هجموا علينا..
الحقوا جوزى الهفتان الغلبان العيان..

بينما الحقيقة غير ذلك تماما فقد كان العراك والتشابك يدور وكأنه معركة سبق التدريب عليها.. فقد كانت مدام عساكر تصرخ وتصيح وهى فى نفس الوقت تمسك بتلابيب مندوب جمعية دار الرمان وتشبعه تلطيشا منفثة غضبها وهى تصرخ فيه:
ــ يا حرامية يا فهلوية يا نصابين حتى حق الفقرا والغلابة بتنهبوه.. هتروحوا من ربنا فين..؟
أما السيد عساكر نفسه فقد تولى أمر مجدى الفرخ بعناية فائقة ولم يكن الفرخ مؤهلا لهذا الاشتباك فهو يشرب المعسل وعليه الغموس ويخرج الدخان من الفم والأنف وبالتالى فهو يلهث مع أقل مجهود.. وفجأة انطلق صوت قوى خشن ومجلجل..

ــ كل واحد يلم نفسه.. أنا جيت..!! وعلى الفور انتهى العراك تماما وساد الصمت.. إنه الحاج عتريس الضعيف.. ولا أحد يعرف من هو الحاج عتريس الضعيف على وجه التحديد..

يعرف عنه أنه الرجل الذى ضرب الدنيا صرمة وأنه الشخص الذى لا يحمل أى هم حتى لو نزعت الهموم ثيابه وحلت محلها.. قال «الضعيف» إيه الموضوع..؟ وقالوا له ما هو الموضوع فهز رأسه فى ارتياح وقال فى هدوء.. محلولة بإذن الله وجبر الخواطر على الله.. وقال لمندوب دار الرمان.. مش الجمعية دى بتاعة «هشام الوزانى» تاجر الألومنيوم.. قال المندوب..
ــ انت تعرفه..؟

قال الضعيف..
ــ عز المعرفة.. مرة أيام ما كنت متجوز وعندى بيت..
اشتريت من عنده نملية ضد الفار.. ضد الصرصار..
وبالتقسيط بدون مقدم.. كان تمنها مايه وخمسين
جنيه.. وكل شهر أدفع.. أدفع.. وفى الآخر وقفت
النملية عليه بألف وخمسميت جنيه..!
غابت ملامح مندوب جمعية دار الرمان وقال فى خجل..
ــ دى أمور أنا مليش دعوة بيها.. أنا معايا صك وعاوز القيمة بتاعته..
وكانت المفاجأة أن الضعيف قال للمندوب:
ــ وأنا هدفع بدل حسين عساكر.. حسين مش حمل سجن ولا بهدلة.. واللى انت شغال عنده.. بيسجن..

وبيحجز.. وممكن ياخد النملية اللى سبق وخد تمنها..
صرخت مدام عساكر
ــ اوعى تعمل كده يا حاج.. معاك تسعميت جنيه وقاعد معانا فى عزبة خير الله.. وكمان عاوز تديهم للبعدا اللى ما يستحقوش.. مش كفاية اللى عندهم..
وفى إيجاز شديد قال عتريس الضعيف..

ــ وبعدين معاكى يا شهيرة.. دا موضوع رجاله.. يعنى تسكتى انت..
ونظر إلى مندوب جميعة دار الرمان قائلا..
ــ عاوز الفلوس إزاى..؟!
ــ زى ما انت عاوز يا راجل يا طيب.. تعسميت جنيه إنشاء الله يكونوا برايز
فى هدوء وثقة وشموخ وكبرياء وأبهة.. مد يده داخل جيبه وأخرج الحاج الضعيف بطاقة مصقولة لوح بها فى الهواء

ــ برايز إيه يا ابنى.. أنا هدفع بالفيزا..
وبهت العدد القليل والمحدود من أمة «محمد» عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون ما يجرى..
وأيضا مندوب دار الرمان الذى أصابته صدمة..
ــ بس أنا مفيش معايا مكنة..

وحسم الحاج عتريس الضعيف الأمر.. قائلا.. روح هات المكنة واحنا تحت أمرك.. وهكذا خرج مندوب جمعية دار الرمان من عزبة خير الله ولم يعد.. إلا أن كل من حضر الواقعة من أمة محمد عليه الصلاة والسلام رفعوا أيديهم بالدعاء..
ــ ربنا يخلى لك الفيزا يا حاج عتريس..

قالت مدام عساكر لرجال مباحث أمن الدولة لولا الحاج عتريس الضعيف الله أعلم إيه كان هيحصل لنا.. لأنه تركنا وغاب ساعة وعاد إلينا حاملا لفافة بداخلها رأس خروف كاملة وكانت الرأس تبتسم فى وجه مدام عساكر وهى مذبوحة.. هكذا قالت..

قال مقدم أمن الدولة للسيدة عساكر بعد أن تأكد من حالة الألفة والمودة التى سادت بينهما..
ــ ممكن نفتش البيت يا مدام عساكر..
نظرت إلى مجدى الفرخ فى قرف قائلة:
ــ والنطع ده موجود معاكم مفيش تفتيش..

وهنا هتف المقدم:
ــ اطلع بره يا نطع.. قصدى يا فرخ..
وخرج ذليلا منكسرا رأسه إلى الأرض.. لاحظ رجل أمن الدولة صاحب الخبرة الطويلة فى عمليات التفتيش عدم وجود أى شىء يمكن تفتيشه، لا توجد مراتب حتى تشق، أو دواليب حتى تكسر.. وحتى المقاعد تم استعارتها أمام عينيه من الجيران.. فى ركن شاهد وابور جاز وحلة ألمنيوم كبيرة بعض الشىء مقلوبة وعدد من الأطباق الصاج.. وحوالى عشرين كتابا على الفور هجم عليهم أحد مساعديه وبالفحص السريع وجدت أختام المكتبات العامة عليها.. قالت مدام عساكر:
ــ كلها كتب حلال يا سعادة أمن الدولة.. وكلها كتب الحكومة موافقة عليها.. أصل جوزى بيستعير الكتب من المكتبات..

اقترب مقدم أمن الدولة من الحلة المقلوبة فوجد بها آثار طهى وبعض الدهون عالقة على جوانبها فلم يعلق.. وسألها فيه ايه فوق يا مدام.. قالت.. ولادى يا باشا..!
وصعد رجال أمن الدولة إلى فوق.. خمسة من الأولاد وكلهم ما شاء الله من الذكور فى نوم عميق ولأنهم صغار جدا أكبرهم فى السادسة من عمره إلا أنهم يشخرون تشخيرا خفيفا وهذا فى عالم الأطفال أمر غير شائع.. سيطرت عليه الحيرة.. خمسة أطفال.. قال لها
ــ ولادك دول.. ولا معاهم ولاد أختك؟
ــ ولادى يا بيه.. دنا حتى مليش اخوات..
ــ لكن انت لسه صغيرة يا ست عساكر..
ــ عندى 27 سنة يا باشا..
ــ وعندك خمسة..؟

ــ خمسة وخميسة فى عين العدو.. يعنى أنا هقول للخلفه لأه يا خلفة..
ثم انطلقت تضحك فى انوثة وحياء مقرون بالدلال وتطوعت بالحكى.. الحكاية غضب عنى يا بيه من يوم ما اتجوزت وأنا على دا الحال.. يدخل ربنا يحميه عساكر جوزى ويدب معايا خناقة بسبب الأكل.. يقول لى هاتى حاجة آكلها.. أقول له مفيش.. يحدفنى بأى حاجة تقع فى إيده ويزعق فى وشى ويقول جعان يا بنت اللى ما يتسموش.. أقوله وأنا هعمل ايه..؟ تعالى كلنى.. ويا ريتنى ما قلتها راح هاجم عليه زى نمر البرارى لما يهجم على غزالة وقعد ياكل هم.. هم.. هم.. هم.. والحال مش على كده يا باشا.. يقول لى جعان.. أقوله كلنى.. وهو ما يصدق، يهجم على طول هم.. هم.. هم.. وبيشبع يا باشا.. وأنا كمان بشبع يا باشا.. وهى العيشة بتاعتنا كده بنسكت الجوع بهم.. هم.. هم.. هم.. وزى ما انت شايف يا باشا.. خمسة فى عين العدو.. انشاء الله يكبروا ويحاربوا إسرائيل..

أحد الضباط الشبان تجاسر وسألها..
ــ هوه الأستاذ عساكر بيجوع كام مرة فى اليوم..
قالت مدام عساكر فى جدية..
ــ زيه زى كل الناس يا باشا.. فطار.. غدا.. عشا..
قال الضابط مذعورا..
ــ وفطاركم.. هم.. هم.. وغداكم.. هم.. هم.. وعشاكم.. هم.. هم..
قالت مدام عساكر بلهفة..

ــ من شر حاسد إذا حسد ومن شر النفاثات فى العقد.. حتى دى كمان مستكترينها علينا..
تدخل الضابط القائد لوقف هذا النقاش المثير للجدل والغيرة وربما الحقد.. وقال لها..
ــ همه الأولاد بسلامتهم بيشخروا كده على طول..؟

ــ لا يا باشا.. النهارده بس.. أصلهم كلوا رأس الخروف اللى جابها الحاج عتريس الضعيف.. اللحمة عملت لهم دماغ وزى ما حضرتك شايف كده نايمين وهمه بيسبحوا ربهم
قال الضاط القائد يستدرج مدام عساكر

ــ ما انت اكيد خدتى نصيبك من رأس الخروف.. بس انت مصحصحة على الآخر..
قالت فى حزن.. لا يا باشا.. انا زى الحمامة توكل ولادها الأول.. لكن العيال بسلامتهم ياكلوا عشرين رأس.. كنت ناويه أشرب شوية شوربة.. لكن ربنا يسامحه عساكر جوزى.. شرب الحلة كلها.. شالها بين ايديه وحطها على بقه من غير فاصل لغاية ما نزلها فاضية.. هنا أخذ المقدم قائد المهمة نفسا عميقا وأخرج زفيرا وقال لرجاله..

ــ معقوله اللى بيجرى فى البلد دى صحيح.. هوه كل واحد شرب حلة شوربة.. يقول أنا عاوز أحكم البلد دى..!
وإلى اللقاء الأربعاء المقبل بإذن الله..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved