حائط ترامب.. وإرهاصات العولمة الدستورية

علي حامد الغتيت
علي حامد الغتيت

آخر تحديث: الأحد 13 يناير 2019 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

تناقضا مع أنساق العولمة وهيمنتها، احتدمت أخيرا أزمة واقعية عنيدة فى أطراف الموقف الأمريكى الداخلى لإقامة حائط أو جدران أو أسوار بين الدول. أقصد جدار ترامب بينه وبين دولة المكسيك ومشكلة من يدفع التكلفة، هذا فى الوقت الذى لم تتحرك القوى الدولية لإزالة جريمة الجدار العنصرى الصهيونى العدوانى على فلسطين، هذا موضوع آخر، فجدار ترامب هذا مؤشر خطر فى مسار ومضمار العلاقات الدولية كما نعرفها، كما أنها تتناقض جوهريا مع مبدأ سيولة وسهولة تسلل العولمية المتخبطة المندفعة فى أرجاء واسعة من النظام العالمى.
هذا التناقض بين مفاهيم ودوافع الجدار، ومعقباته، فى مواجهة العولمة التى مازالت مستمرة فى فرض إعادة تشكيل المكونات السياسية والعلاقات الاقتصادية والمالية والاستراتيجية فيما بين الدول فى النظام العالمى الحالى، رغم وجود الحوائل المعقدة دون وقوع المصادمات السيادية بين الدول، للحفاظ على استقلال كل منها فى مواجهة الأخرى فى انفرادها بتنظيم أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية.
***
أما اليوم، فنحن يعنينا التدقيق فيما لاحظناه من تصاعد فى المأزق الدستورى الداخلى فى أمريكا مصاحبا وملاصقا، وإن لأسباب أخرى، بأزمة الجدار الأمريكى فى مواجهة المكسيك.
فمن المعلوم أن العلاقات بين المراكز القانونية للمؤسسات الدستورية فى الدولة وهى القائمة على الشأن العام فيها، هو الشأن المنشغلة به أفهام وقدرات القائمين عليها والخاضعين لها على تفاوت بينهما فى مواجهة العولمة. ومما يبدو فى المشهد الأمريكى كما فى مشاهد أخرى فى دول لها ذات الأهمية، أو أقل قليلا.
ملحوظ أن من أهم التطورات التى وردت على الساحات الدستورية المتعددة أن ثمة مصادمات واقعية، داخليا بين المؤسسات الدستورية الوطنية بما يتناقض مع الثوابت الدستورية سواء منها الموثق أو ذلك الذى تحكمه الأعراف العليا من حيث اقتسام القوى والأدوار الدستورية التى سبق أن توصلت الشعوب، كل فى دارها، إلى ضبط هذا الاقتسام وتدقيق التوازن فى النصوص كما فى الواقع.
وما نلاحظه الآن، إذ لم نكن مخطئين، هو من ثمار لم تنضج بعد لمواقف داخلية غير مسبوقة فى إخلالها أو على الأقل فى مساسها فى أصوليات وكليات الأوضاع الدستورية المستقرة فى بعض مراكز التأثير العالمية الكبرى وهو شأن كما يصعب التنبؤ بمعقباته فى مناخ ما يسمى بالعولمة، فإنه أيضا يشير من طرف خفى إلى احتمالات التسرب والسيولة والسهولة فى شئون لم تعد دستورية، لم يسبق للعولمة أنها خاضتها أو دعت إليها، وإن كانت قد خلقت مناخا عاما تنخفض فيه وبه الأستار الدستورية، الاستقلال الدستورى، ولذا وجب التنويه.
***
ولقد تعاودنا كل ذلك إلى حكمة النظر والتفكر فى مجريات أو قل موجات العولمية المتذبذبة، المنفلت منها والمنضبط، فالذى استجد هو قابلية نسق العولمة ومقاصدها، للانتقال من مجال إلى آخر من مجالات الأنشطة العابرة للحدود ومتعدية السيادات، من هيمنة عسكرية أو استراتيجية أو مالية أو اقتصادية فى أدواتها المختلفة من قرارات حكومية أو صادرة من منظمات عولمية استثنائية إلى توسع، مقصودا كان أم غير مقصود، وفى الحالتين واجب التحسب له، قد بدت بوادره فى الأفق الفضائى العالمى، لأول مرة يـرشح نفسه ميدانا إضافيا لاحتمالات تخليقه على نسق دولى فى إطار التأثير المباشر وغير المباشر، للمصادمات الوظيفية بين المؤسسات الدستورية والضوابط الذاتية لاحترام كل منها للأخرى. كل ذلك مما يمكن أن يندرج «فعليا» (وواقعيا) وإن كان بطريق التصرف البطىء ثم المفاجئ لعولمة تلقائية منفسحة محتملة فى مجال جديد تماما هو مجال إعادة توصيف وتصنيف العلاقات بين المؤسسات التى تتولى المسئوليات الدستورية فى حكم المجتمعات الحديثة.
وقد تتلقى الشعوب هذه الفرعية المستحدثة من العولمة فى أنحاء العالم تارة باختيار، وأخرى بالتحاق، وثالثة بالاستسلام للعولمة العفوية الدستورية الوافدة المتسللة إلى المجتمع المتلقى والمجتمع الملتحق فى عجالة. بل إنه من المرجح فى المرحلة القادمة أن يندرج الجميع كل على نحو ما من صنوف «الفضاء العولمى الدستورى والقانونى» الذى كان حتى وقت قصير مضى، موضعا لانشغال قاصر على الفقهاء المتخصصين أو الدارسين «للعلم المقارن»، «أكاديميا»، أما الآن فقد يأتى الوقت قريبا حيث قد يصبح الموقف العولمى على تذبذبه بين الرضا غير المبرر من ناحية، وبين افتعال الرضا عن غير قناعة، فى مواجهة البنيان الفقهى العلمى الدستورى والقانونى بما يصبح فيه ذلك الانشغال الفقهى والعلمى المقارن بين ليلة وضحاها، نوعا من المراحل التاريخية التى أفلت جزئيا فى دائرتها المغلقة على الدراسة الفقهية العلمية المقارنة، فتسقط فى بوتقة تسمى «التقليدية القديمة» لأول مرة منذ نشأة علوم فقه النظريات العامة فى القانون الدستورى، مما قد يترتب عليه لأول مرة تفكيكات غير مسبوقة تلحق الضوابط والضمانات كما عرفها الفقه والمجتمعات. وقد نقول قد تأتى هذه العولمة التلقائية مغرية بالتصادمات بين أركان القوى التأسيسية فى عديد من النظم الاجتماعية والدستورية على نحو غير مسبوق، إن التحاقا أو اقتداء بما يجرى فى ساحات التناقض والتصادم بين المؤسسات المقابلة فى عدد من الدول الأوروبية ــ ولها قصص متفاوتة ــ كما والدولة الأمريكية التى نراها اليوم على الشاشات الفضائية وفى سطور وسائط التواصل الاجتماعى من تفاصيل لا يخطؤها المراقب. ويشير ملاحظوها والمراقبون لها إلى أنها جميعا أصبحت قوى مهمة حيث هى فى الدول متصدرة المشهد العولمى وداخل مؤسساتها المتصادمة والتى اخترق بعضها فى مواجهة البعض الآخر. إذ إن العهود والأعراف بل القواعد الدستورية الثابتة منذ قرون أربعة أو أقل قليلا منذ انتهاء الحروب الاقتتالية الدينية بين الأوروبيين (إسبانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا وفرنسا والسويد، والإمبراطور الرومانى وفرنسا) ، التى امتدت ثمانين عاما واختتمت بحرب الثلاثين فى 1648. وكانت قد خرقت فيها العهود والحقوق لملايين البشر فى آلاف الإمارات المتناثرة على القارة.
والمراقب للتاريخ العالمى أفقيا يلاحظ أن المنقذ الحقيقى من تلك الكوارث الأوروبية هو كتابات وفقه «هيوجو جروتشس» التى نشرها فى عام 1625 من فقه دستورى وقانونى دولى مستعينا فيما استعان به ما أبدعه الإمام أبوحسن الشيبانى فى فقه العلاقات الدولية، منضبطا متكاملا حول «الحقوق فى الحرب والسلم» وأهداه إلى ملك فرنسا العظمى فى ذلك الوقت القوى المهيمنة الأوروبية فاقتنع بوجوب أنها حروب الاقتتال الأوروبى الدينى طبقا لقواعد كلية أخلاقية، كما وضع الضوابط للحيلولة دون تكرارها.
***
والتأمل السريع فى مجريات السطح السياسى الدستورى الأمريكى الذى يكاد يعاد تشكيله كل ساعة هذه الأيام ومنذ مجىء ترامب وظروف قدومه ومركبات الموقف المتغيرة تصاعديا تطرح، قهرا، التساؤل عن أثرها فى الأوضاع التأسيسية للمجتمع الأمريكى من ناحية، وأقصد بهذا أوضاع الميثاق الدستورى الذى نشأت بمقتضاه الولايات المتحدة الأمريكية كدولة فيدرالية نظم سلطات المجتمع وتوزيعها بين المؤسسات الدستورية والمجتمعية فيها، وهى مجريات مصاحبة لآثار التوترات والهيمنات والمقاومات من مختلف مصادرها تطرح من جديد ليس فقط ما تداول من مصطلح نشأة «نظام عالمى جديد» بما فى ذلك مكوناته السياسية والاستراتيجية عسكرية واقتصادية، إلا أنها، وإنما بحكم الأوضاع السائلة العالمية والوطنية، هذه المرة تنبئ بأن النظام العالمى الجديد قد يجىء هذه المرة مصحوبا من غير سابقة بذور عولمة الأوضاع الدستورية.

مفكر وكاتب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved