خطابان

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 13 يناير 2019 - 9:18 ص بتوقيت القاهرة

بعد عشر سنوات من خطاب باراك أوباما الشهير في جامعة القاهرة (٤ يونيو ٢٠٠٩)، جاء مايك بومبيو؛ وزير خارجية ترامب ليس فقط ليخطب فينا، بل وليذكرنا بخطاب أوباما الذي انتقده علنا خروجا عما نعرف من تقاليد دبلوماسية.

ـــــــــــــــــــــــــ

باختصار، «مصلحة إسرائيل» هي العنوان الأول لاستراتيجية ترامب «الشرق أوسطية». ولم يكن خطاب وزير خارجيته في القاهرة أكثر من تأكيد على الحقيقة التي نعرف

في خطاب حفل بالإشارات الدينية، قال وزير خارجية ترامب إن مهمة بلاده الأولى (يقصد إدارة ترامب) هي القضاء على التعصب الديني (!).

لم أكن وحدي الذي استوقفته المفارقة، كما كثير مما في الخطاب من مغالطات، وتعالٍ، وتجاهل. هذا ليس رأيي (إذ ربما كانت شهادتي مجروحة)، ولكن هكذا قالت The New Yorker الرصينة التي عنونت تقريرها عن خطابه القاهري Pompeo and His Bible Define U.S. Policy in the Middle East

بعد أن بدأ رجل الاستخبارات خطابه بالإشارة ابتداء إلى كونه «مسيحيا من الكنيسة الإنجيلية»، وإلى «خلفيته العسكرية»، وإلى «الكتاب المقدس» الذي يبقيه مفتوحا على مكتبه. عرج مباشرة، في سابقة غير مألوفة دبلوماسيا، إلى انتقاد الرئيس «الأمريكي» السابق؛ باراك أوباما «الذي وقف أمامكم في هذه المدينة... ليخبركم أن الإرهاب الإسلامي المتطرف لا ينبع من أيديولوجية».

ربما وجب علينا الاعتذار مقدما إذا أقدمنا على مقارنة ما جاء في «الخطاب الأمريكي الجديد» لوزير خارجية ترامب قبل أيام، بخطاب باراك أوباما الشهير ذاك في جامعة القاهرة مستهلا ولايته قبل عقد من الزمان. ولكن في زمن ذهبت به الاستقطابات بالعقول، قد يكون في بعض الذكرى ما ينفع «المؤمنين».

***

حرص أوباما دوما على تأكيد رفضه استخدام تعبير «الإهاب الإسلامي»، واضعا خطا فاصلا واضحا بين العقيدة والإرهاب

في يونيو ٢٠٠٩ وعلى الرغم من أن مصر ليست أكبر الدول الإسلامية (إندونيسيا الأكبر) كما أنها لم تكن مهد الديانة أو مبعث الوحي أو أرض الحرمين الشريفين، فضلا عن أنها، تاريخيا ليست الوارثة «للخلافة»، كما أنها، سياسيا لم تكن الرافعة للواء الثورة «الإسلامية»، فقد كان أن اختارها باراك أوباما، بعد أشهر معدودة من توليه منصبه لتكون هي لا غيرها «منصة رسالته» إلى العالم الإسلامي.

يومها حرص أوباما على تذكير من نسي من سامعيه (وأنا هنا أقتبس من النص) بأن «العقيدة التي يتحلى بها أكثر من مليار مسلم تفوق عظمتها بشكل كبير الكراهية الضيقة التي يكنها البعض.. إن الإسلام ليس جزءا من المشكلة المتلخصة في مكافحة التطرف العنيف، وإنما يجب أن يكون الإسلام جزءا من حل هذه المشكلة».

وكان لافتا لكل من استمع يومها إلى الخطاب أن في الوقت الذي لم يكن يتردد فيه ــ لحسابات سياسية ضيقة ــ بعض إعلامنا، وخطابنا الرسمي في الربط في الضمير العام بين الإرهاب والإسلام، لم يتردد الرئيس «الأمريكي» يومها في تذكيرنا في «خطابه القاهري» بأن «معظم ضحايا المتطرفين من المسلمين». كما لم يتردد أبدا في تأكيد رفضه استخدام تعبير «الإرهاب الإسلامي»، واضعا خطا فاصلا واضحا بين العقيدة والإرهاب، وهو الأمر الذي دأب عليه في كل خطاباته طوال فترة رئاسته التي امتدت لثماني سنوات.   

أكد على ذلك في «مؤتمر واشنطن الدولي لمكافحة العنف والتطرف ــ  فبراير ٢٠١٥». كما أكد عليه في خطابه في الأمم المتحدة أيامها، والذي حرص فيه على التأكيد على أن «الإرهاب ظاهرة سياسية لا دينية، وأن مقاومة التطرف والإرهاب لا تكون إلا بإتاحة المزيد من الحرية والديموقراطية واحترام الآخر وحقوق الإنسان

لا أظن أن هناك من بحاجة إلى أن يتذكر أنه بعد أيام من خطاب أوباما الوداعي (قبل تسليم السلطة)، والذي رفض فيه للمرة الألف الترويج لفكرة أن «المسلمين إرهابيون». لم يتردد دونالد ترامب (الرئيس الجديد) في التعبير بكل طريقة ممكنة عن اعتقاده أن «كل مسلم إرهابي ما لم يثبت العكس». يومها لم يكتف ترامب بالحديث عن منع المسلمين من دخول أمريكا، بل كان طبيعيا (وصادما في آن) أن نسمع من أحد أركان إدارته (وحملته الانتخابية) عن الحاجة إلى عمل سجلات خاصة تدون فيها أسماء المسلمين «الأمريكيين»، بالضبط كما فعل هتلر مع اليهود في ألمانيا النازية. هل هناك إذن من يستغرب ما ورد في خطاب بومبيو؛ وزير خارجية ترامب؟

***

يحاول ترامب ورجاله رسم خريطة جديدة «للصراعات البديلة» في الشرق الأوسط؛ «طائفية» للأسف

يتحدث بومبيو في خطابه «القاهري» عن خطورة الإرهاب (الذي يبدو أنه لا يراه إلا إسلاميا) وعن ضرورة بناء «تحالفات» لمقاومة التطرف. لا بأس. ولكنه يغفل عن حقيقة أنه (في الخطاب ذاته)، يتحدث لغة المتطرفين ذاتها، حين يستحضر الطائفية الدينية (بالتعريف) تمهيدا وتسويقًا لاستراتيجية ترامب الشرق أوسطية القائمة على بناء حلف «سني» في مواجهة إيران «الشيعية».

(بالمناسبة، في خطابه قبل عشر سنوات، والذي أشار إليه بومبيو، كان أوباما قد حذر من أن «الانقسام بين السنة والشيعة سيؤدي حتما إلى عنف مأساوي…»)

يحاول بومبيو (ولعله نجح) رسم خريطة جديدة «للصراعات البديلة» في الشرق الأوسط، «طائفية» للأسف، لتكون بديلا عما عرفناه من صراع حقوق بين غاصب محتل وصاحب أرض. لا مجال في حديثه لما كنا قد سمعناه من أوباما يومها عن حقوق فلسطينية «مشروعة»، ولا لحل الدولتين، رغم أن الفكرة ولدت في الأساس «أمريكية».

هو فقط أعرب عن سعادته «بالحلم الذي يتحول إلى حقيقة». مفصلا (وأنا هنا أقتبس من النص الرسمي للخطاب): « من كان يمكن أن يصدق قبل بضع سنوات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيزور مسقط؟في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، عُزف النشيد الوطني الإسرائيلي، بينما كان لاعب جودو إسرائيلي يُتوج لفوزه بلقب البطولة في دورة رياضية في دولة الإمارات العربية المتحدة. وكانت تلك هي المرة الأولى ــ المرة الأولى ــ التي يُسمح فيها لوفد إسرائيلي بالمشاركة تحت علمه الوطني. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تحضر فيها وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية حدثا رياضيا في الخليج».

باختصار، «مصلحة إسرائيل» هي العنوان الأول والحاكم لاستراتيجية ترامب «الشرق أوسطية». ولم يكن خطاب وزير خارجيته في القاهرة أكثر من تأكيد على الحقيقة التي نعرف.

***

لم يتردد وزير الخارجية القادم من وكالة الاستخبارات في أن يترك دبلوماسيته جانبا ليقف في قلب «عاصمة العروبة» غير متردد في إدانة ترسانة صواريخ حزب الله «الموجهة مباشرة إلى حليفتنا إسرائيل»، في الوقت الذي يغمض عينيه تماما ليس فقط عن حقيقة أن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، بل عن كل ما فعله الجيش الإسرائيلي بالفلسطينيين، ومن قبلهم بالمصريين (وتفصيل مثل تلك الجرائم بالمناسبة موجود في كتابات الإسرائيليين أنفسهم).

لا أثر في خطاب بومبيو طبعا لكل ما كان قد ذكره أوباما في خطابه من حقيقة أن الوضع الذي يعيش فيه الفلسطينيون لا يطاق. ومن ضرورة إقرار الإسرائيليين «بحق فلسطين في البقاء»... ولا «بعدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة»… ولا باعتبار «مبادرة السلام العربية بداية هامة».

يذكر المتابعون للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية أن أوباما لم يتردد أكثر من مرة في أن يصف سياسات نتنياهو بأنها العائق الرئيس أمام السلام، وأنه أنهى ولايته بتمرير قرار أممي «غير مسبوق» يدين إسرائيل، قبل أن يكلف وزير خارجيته بإعلان خارطة طريق «غير مسبوقة أمريكيا» لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وقعت بنودها الستة يومها على اليمين الصهيوني في إسرائيل كالصاعقة.

***

الذين كرهوا الديموقراطية (لشعوبهم)، فكرهوا أوباما، لا يُستغرب أن يرحبوا أو يصمتوا عن ما يقوله، أو يحاوله وزير خارجية ترامب

ليس غريبا أن يحفل خطاب وزير خارجية ترامب بالتناقضات، أو بالأحرى «بميكيافيلية السماسرة». فهو يصفق لتحرك «الشعب» الإيراني ضد مستبديه، ولكنه لا يبدو راضيا عن تحرك «الشعوب» العربية ضد مستبديها (!)

وهو ينوه بوجود آلاف من الجنود الأمريكيين في الخليج «بطلب من حكوماتها». ولكنه يعتبر أن على الولايات المتحدة وحلفائها العمل على إخراج آخر جندي إيراني (أو مقاتل لبناني) من سوريا، على الرغم من أنهم موجودون أيضا بطلب من حكومتها (!).

ثم هو يقصر حديثه على «الإيرانيين» في سوريا، ويغمض عينيه تماما عن «الروس» هناك. على الرغم من حقيقة أن التواجد الروسي إلى جانب الأسد كان هو العامل الحاسم في بقائه جاثما على صدر شعبه، وإعادة الساعة في سوريا إلى الوراء.

لا أحد بوسعه أن ينكر أن في إيران وسوريا «أنظمة قمعية»، ولكن لا أحد بوسعه أيضا أن يغمض عينيه عن حقيقة أن الداء منتشر في المنطقة كلها. وأن مما يستدعي الأسف، وربما السخرية أن تقف ضد قمع هؤلاء، في الوقت ذاته الذي تساند فيه بكل وسيلة تملك (وأنت للأسف تملك) قمع الآخرين

***

يبقى أنني استمعت إلى حديث مايك بومبيو مرتين. ولا أعرف لماذا تذكرت حديث برنارد لويس القديم عن الحاجة إلى «صناعة عدو». وحديث غيره المتكرر عن استراتيجية أن تترك المسلمين يقاتلون بعضهم بعضا.

……………

كما يبقى أن الذين كرهوا الديموقراطية (لشعوبهم)، فكرهوا أوباما، لا يُستغرب أن يرحبوا أو يصمتوا عن صفاقة وزير خارجية ترامب؛ الرئيس الذي رحبوا به، فاعترف بالقدس، ورقصوا معه فهددهم مبتزا بزوال دولتهم خلال أسبوعين لو لم يدفعوا.

لا عتب على «الوزير»، الذي سمعناه قبل أيام. فهو ينفذ سياسة رئيسه؛ واضحة الأهداف والمنطلقات «العنصرية اليمينية». ولا عتب كذلك على فجاجة اللغة، أو صراحتها؛ تعاليا أو تجاهلا لحقوق مشروعة. لم يعد هناك مبرر للاختفاء وراء دبلوماسية العبارات المطاطة. فعرب هذا الزمان (أو بالأحرى حكوماتهم) راضون، قابلون، ما دامت كراسيهم في أمان.

……………

ثم يبقى بعد ذلك كله أننا نعرف أن مايك بومبيو، كما بقية رجال الرئيس لا يمثل أمريكا «التي نعرف»، والتي صنعت قوتها «الحقيقية»؛ تنوعا، وحرية، واحتراما لحقوق الإنسان. فهو فقط يمثل رئيسه، وذلك التيار اليميني المتعصب المتعجرف، الذي لا يدرك أنه بمواقفه وسياساته العنصرية إنما يقضي على القوة «الحقيقية» لذلك البلد، في حين يرفع شعاره الديماجوجي الأثير: make america strong again

 

***

وبعد..

فما ورد عاليه ليس أكثر من محاولة (لا أحسبها ستنجح في لحظة الاستقطاب الأحمق تلك) لتذكير من نسي، أو غفل عن حقائق ما صرنا إليه. أما خطاب مايك بومبيو، فلا أظن أن هناك من انتظر منه غير ما جاء فيه. فهذا عصر ترامب.. وهذا وزير خارجيته. فليهنأ بهما «الترامبيون العرب».

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ خطاب أوباما بجامعة القاهرة (٤ يونيو ٢٠٠٩)

خطاب أوباما بمؤتمر واشنطن الدولي لمكافحة العنف والتطرف (فبراير ٢٠١٥).

خطاب مايك بومبيو في القاهرة (١٠ يناير ٢٠١٩).

Two Speeches, a Decade Apart: How Pompeo Departed From Obama

الرجل الذي ذهب (١٥ يناير ٢٠١٧).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved