الإنسان والحكمة

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 13 يناير 2023 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

اتفق الفلاسفة الأقدمون على أنه توجد أربعة صنوف من الحكمة (الفلسفة): الحكمة الإنسانية والحكمة الدنيوية، والحكمة الشيطانية والحكمة السماوية.
أما الحكمة الإنسانية فأساسها الخبرة البشرية، بتاريخها ونهضتها وحضارتها، وأما الحكمة الدنيوية فتأتى من الانخراط فى المجتمع، وتقوى الطموح والتنافس، مما يؤدى إلى الإنجاز والحسد، لكن ما يهمنا هنا هو الحكمة (الفلسفة السماوية)، فهى تؤدى إلى السلام والفلاح والفوز العظيم، لكن هذه الحكمة هى ملك لله وحده دون غيره، ذلك بأنها تنبع من جوهره. أما من ناحية الإنسان، فأعمق رغبات نفسه هى اقتناء هذه الحكمة للتواصل مع الله من ناحية، والبشر المحيطين به من الناحية الأخرى، وفى رأيى أن هذه الحكمة كانت عند آدم قبل السقوط فى الخطيئة خاصة أنه كان يتواصل مع الله ويكلمه.
• • •
ولقد حار أيوب النبى فى أمره إذ أعياه البحث عن مصدر وأساس الحكمة (الفلسفة)، فسأل: «أما الحكمة فأين تُوجد؟! والفطنة أين مَقرُّها؟! فالإنسان لا يعرف قيمتها، ولا وجود لها فى أرض الأحياء، فأجابه الغمر صارخًا معلنًا: ليست فىَّ، وقال البحر: ليست عندى، لا يُعطَى الإبريز عِوضًا عنها ولا تُوزَن الفضة ثمنًا لها، ولا يساويها ذهب، أو حجر كريم، ولا تُبدَل بأوانى الذهب الخالص، لا يُذكر معها المرجان ولا البلور، واستخراج الحكمة يفوق استخراج اللآلئ، لا يقاس بها ياقوت ولا يساويها الذهب الخالص، لكن السؤال هنا إذن من أين تأتى الحكمة والفطنة؟ تُرى أين مقرها؟!
هنا أجاب الله ــ عز وجل ــ النبى أيوب من العاصفة قائلًا: أنا هو الذى يضع الحكمة فى القلوب، والفهم فى العقول فدعونا ننظر فى مثالين واقعيين من حياة النبى سُليمان والسيد المسيح لنرى كيف يتحقق ذلك:
طلب سَيدُنا سُليمان الحكمة من الله قائلًا: قد صنعت إلى داود أبى رحمة عظيمة وملَّكتنى مكانه، فالآن أيها الرب الإله ليتحقق كلامك لداود أبى، لأنك ملَّكتنى على شعب كثير كتراب الأرض، فهب لى الآن حكمة ومعرفة لأخرج وأدخل أمام هذا الشعب، لأنه من الذى يستطيع أن يحكم شعبك العظيم هذا؟ فقال الله لسليمان: بما إن هذا كان فى قلبك ولم تسل غنى وثروة ومجدًا، ولم تطلب نفوس مبغضيك ولا أيامًا كثيرة، بل سألت عن الحكمة أو المعرفة لتحكم شعبى، فقد أعطيتك الحكمة والمعرفة (والحكمة والمعرفة هنا مقصود بها الفلسفة بحسب المصطلح الأحدث تاريخيًا) وسأعطيك غنًى وثروة ومجدًا لم يكن مثلها للملوك من قبلك، ولن يكون من بعدك. وهكذا أعطى الله سليمان حكمة (فلسفة) وفهمًا واسعًا جدًا، بل ورحابة صدر كالرمل الذى على شاطئ البحر، ومن هنا فاقت حكمة سليمان حكمة جميع أهل الشرق وكل حكمة مصر. وقد وصف سليمان حكمة الله التى وهبها له بقوله: «إنها نفخة القدير وانبعاث من مجده، لذلك لا يتسرب إليها شىء نجس، لأنها انعكاس للنور الأزلى، ومرآة صافية لعمل الله، ونادى قائلا: الحكمة تدعو الجميع إلى رحابها ليستنيروا بنورها فلا يعثرون، والحكمة قائمة من قبل خلق الإنسان وهى تدعو الناس جميعًا إلى نورها.
إذن فقد جسد لنا السيد المسيح حكمة الله وأنارنا بالصفات الكريمة بما يتوافق مع مفاهيم البشرية المحدودة، وفى الوقت نفسه ضرب لنا مثالًا على الصفات الحميدة التى تُرضى الله.
من هنا دعا السيد المسيح مجموعة من حوارييه ولقنهم أسلوب تبليغ رسالته إلى العالم وقد كانت تجربة سيدنا المسيح مع حوارييه بديعة، وهكذا قام أحد الحواريين ويُدعى يوحنا (يحيى) بن زكريا بكتابة تجربته وزملائه مع السيد المسيح، ويوضح يوحنا من خلال كتاباته فى الفصول الأولى كيف أن السيد المسيح هو كلمة الله وقد أتى إلى العالم ليخبر عن الله، ويجسد بحياته وموته نموذج الحياة التى ينبغى أن نحياها، ولكى يُنجز هذه المهمة لم يكن المسيح رسولًا متميزًا فقط، بل عاش أيضًا كأى شخص عادى فى ذلك الزمان، وانطلاقًا من هذه اللحظة الفريدة فى التاريخ البشرى أصبح بإمكاننا التعرف بالله والاتحاد به، ولذلك ولكى يكون المرء واحدًا من حوارى المسيح ــ عليه السلام ــ أن يعيش حياته فى نور الله وكل الذين قبلوا النور وآمنوا به أعطاهم سلطانًا روحيًا خاصًا بهم، من هنا كانت ولادتهم ليست من دمٍّ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله، فهم أولاده بالروح، فالله لم يره أحد قط ولن يراه، لكن رسالته وصلت وتصل لكل بشر يولد من خلال روحه وأنبيائه والوحى المقدس وكتبه.
• • •
من هذا المنطلق كل من يولد بالروح بمعنى أن يتوب إلى الله من خلال كلمة الله بكل تجلياتها يقبله الله، وهذا يوضح كيف أن الله يشتاق بقوة أن يتعامل مع عبيده وأبنائه الذين ينتمون إليه ولا يريد إهلاك بشر مهما كانت انحرافاتهم وبعدهم عنه بل يريدهم أن يتوبوا عن انحرافاتهم بالقول أو الفعل، ونحن نستطيع أن نكتشف ذلك بسهولة من خلال قراءة الكتب المقدسة التى أوحى بها إلى أنبيائه إذ تعلن أن الله يهتم بشدة بخليقته خاصة الناطقة والقادرة على التعبير عن ذاتها وأشواقها إلى العودة لمصدرها وإقامة علاقة معه وبناء حوار خلاق بينه وبينهم من خلال أنبيائه ورسله والوحى المقدس ومن المهم جدًا هنا أن تكون هناك اجتهادات فى قراءة وتفسير الكتب المقدسة لكل عصر وجيل ولغة لكى يستمتع القارئ ويدرك كيف أن الله الذى خلقه يهتم به وبالعلاقة التى تربطهما معًا كخالق ومخلوق وشوق المخلوق للعلاقة بخالقه ومصدره وتحنن الخالق على خليقته، وهكذا تصبح الحياة الإنسانية على الأرض من أجمل وأروع الحيوات حيث الفهم والتفهم بين الخالق والمخلوق وبين المخلوقات وبعضهم البعض وهكذا نستحضر صورة الجنة فى الكتب المقدسة قبل أن نذهب إليها وهكذا هناك تكليف من الله لكل إنسان خلقه الله بعقل وروح ونفس لكى يحقق هذا الهدف والذى بتحقيقه تصبح الحياة لها معنى وروح وفكر ويستطيع الإنسان أن يحقق ذلك من خلال عطاء الذات والعقل الخلاق والعمل على الوحدة الإنسانية بلا تفرقة بين رجل وامرأة، سيد وعبد، غنى وفقير... إلخ.
وهكذا يكون لكل فرد مشروعه الخاص الذى يجد فيه ذاته مع اكتشاف مواهبه التى وهبها الله له ليستخدمها لخدمة الوطن الذى يعيش فيه والبشر المحيطين به وكل الكائنات الحية من حوله وهكذا تكون الحياة أفضل مكان للأخذ والعطاء والتعاون بين البشر والفهم والتفهم وهذا الذى من خلاله تطورت الحضارات الإنسانية عبر العصور منذ أن عاش الإنسان البدائى فى الكهوف حافيًا عاريًا يغطى جسده بجلد الحيوانات حتى وصل اليوم إلى الحضارة الإنسانية المتقدمة المستنيرة والمتمدينة ووصل إلى اكتشاف الكون من حوله فصعد إلى القمر، واكتشف الكواكب المحيطة بالكرة الأرضية، بل ونزل بأقدامه على سطح القمر، ويتطلع إلى الحياة خارج الكرة الأرضية ليصنع ويزرع حضارة إنسانية متطورة على الكواكب المحيطة، فليس هناك حدود لخيال الإنسان وطموحاته فقد خلقه الله بعقل متميز يختلف عن جميع المخلوقات، ذلك العقل الذى زرع الله فيه الخيال والأحلام اللامتناهية ليخضع كل الكون لإرادته وفكره، ولكى تتأكد عزيزى القارئ من صحة وحقيقة هذه الفكرة عليك بقراءة المقال من بدايته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved