أيام للكلام عن الثورات العربية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 13 فبراير 2012 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

قضينا أربعة أيام نتكلم. لم نفعل شيئا غير أن نتكلم. الثورات العربية كانت الموضوع، ولكنه لم يكن السبب الوحيد الذى منعنا من أن نفعل شيئا آخر غير أن نتكلم. فقد اختاروا لنا مكانا نائيا فى منتجع يبعد عن عاصمة البلاد سبعين كيلو مترا، واختاروا موسم الشتاء حين يندر وجود السياح الأوروبيين، وعلى كل حال كانت الثورة التونسية حائلا أقوى من الشتاء لمنع السياح من الحضور. ولم تبخل السماء بأمطارها ولا الطقس ببرودته. اكتملت العناصر التى تضمن لمنظمى المؤتمر حضورا مستمرا ومتواصلا من جانب المشتركين وكلاما لا يتوقف.

 

حذرونى قبل السفر من الملل، فالثورات وإن كانت فعلا مثيرا وموضوعا شيقا، إلا أن أربعة أيام مدة طويلة ليقضيها الإنسان فى الكلام مع أشخاص مهما بلغ الشوق لرؤيتهم وتبادل الرأى والمعلومات معهم، وفى مكان منعزل مهما بلغ جمال طبيعته ونقاء هوائه. هى أيضا مدة طويلة إذا أخذنا فى الحسبان أنها المرة الثانية خلال عشرة أيام التى أسافر فيها إلى البلد الذى انبعثت فيه أول حلقة فى مسلسل الثورات العربية. انقضت الأيام الأربعة ولم أشعر بملل ولم أندم.

 

●●●

 

لن أكون عادلا أو منصفا إن حاولت تلخيص ما دار من نقاش وما ورد فى أوراق بحثية تجاوز حجمها ستمائة صفحة. إنما أستطيع أن أنقل انطباعات وقليل من التفاصيل والحقائق. وأعترف أننى عدت بناء على هذه الانطباعات وما سمعت من حقائق ومعلومات وقد ازددت اقتناعا بآراء ومواقف سبق أن عبرت عنها خلال شهور الثورة وتسربت شكوك فى قناعات أخرى.

 

أعود، مثلا، واثقا من أن المشكلة الأعظم فى الثورة المصرية وكذلك فى الثورات العربية الأخرى هى، وستظل لسنوات عديدة قادمة، التوصل إلى توافق بين الديمقراطية من جهة والإسلام السياسى، حاكما كان أم مشاركا فى الحكم، من جهة أخرى، وبينها من جهة وبين القوميين وغلاة الوطنية من جهة أخرى، وبينها من جهة وبين قطاعا فى التيار الليبرالى من جهة أخرى وهو قطاع مستعد للتنازل عن ليبراليته وتمسكه بالديمقراطية فى سبيل منع التيار الدينى من الوصول للسلطة أو النجاح فى الحكم واستمراره فيه. بمعنى آخر تعززت قناعتى بأن الديمقراطية، التى ثارت الشعوب من أجلها وبدأ بعضها كما فى تونس ومصر يمارس درجة منها، تقع تحت الحصار وأخشى من أنها ستتعرض لأزمات عنيفة فى الشهور أو السنوات القليلة القادمة قبل أن تتوافق مع خصومها وتستقر.

 

تكلم الكثيرون المنتمون لتيارات سياسية متعددة عن التطور الذى تشهده الثورات العربية الخمس، وبدا الميل الواضح إلى الديمقراطية كهدف أسمى، ولكن بدا أيضا ميل أشد إلى التمسك بعقائدهم الأسبق أوالكامنة، مثل عقيدة الدين السياسى والعقيدة القومية والعقيدة الليبرالية الرافضة لهاتين العقيدتين.

 

●●●

 

الشيخ راشد الغنوشى الذى قضى يوما وبعض يوم فى المؤتمر دافع عن حركة النهضة التى تقود حكومة الثورة فى تونس. قال إن حركة النهضة ليست حزبا دينيا كما يردد خصومها، وأن الحكومة التى تقودها ليست حكومة إسلامية، بل حكومة ديمقراطية تعددية تضم وزراء من التيارات القومية الليبرالية واليسارية، وقال إن نجاح حركة النهضة فى تشكيل هذه الحكومة التعددية الوسطية لأكبر دليل على أن الفصل بين الإسلاميين والعلمانيين مصطنع وبعيد تماما عن الواقع.

 

كان وجود الغنوشى فى المؤتمر مستمعا ومتحدثا ومناقشا، حافزا لتوجيه العديد من الاستفسارات والأسئلة الدقيقة والصريحة إلى حد إثارة الحرج، وأظن أن بعض الأسئلة كان حافزا لإجابات أخذ إعدادها وقتا وجاءت بعد استمزاج وتفكير عميقين خاصة أن الأجواء فى تونس كانت فى ذلك اليوم مشحونة بسبب السرعة التى اتخذ بها رئيس الجمهورية قراره بطرد السفير السورى فى تونس احتجاجا على وحشية نظام الأسد فى التعامل مع شعب حمص. جاءت الانتقادات للقرار من القيادات «القومية»، وبعضها مشارك فى الحكم ومن تيارات سياسية أخرى وانتظمت مظاهرات أحاطت بوزارة الخارجية.

 

كان الرد الرسمى، بخاصة من جانب التيارات الدينية الحاكمة، هو أن قرار الطرد لم يتخذه الرئيس منفردا ولكن بالتشاور مع رئيس الحكومة حسبما ينص «الدستور الصغير». وتساءلت الحكومة إن كان يتعين عليها إجراء استفتاء على كل قرار تتخذه قبل إعلانه، أو التشاور بشأنه مع قوى الثورة الأخرى. جاء أيضا فى دفاع الحكومة أنها باتخاذها هذ ا القرار لم تكن تحاول المزايدة على الثورة أو الثوار. الجدير بالذكر أن بعض تيارات المعارضة اتهمت الحكومة بأنها إنما اتخذت القرار بطرد السفير استجابة «لتوجيهات» من دولة قطر أو دول الخليج بشكل عام التى قررت فى اليوم نفسه سحب سفرائها من سوريا. تصادف أيضا أنه كان اليوم الذى اتخذ فيه مجلس الشعب المصرى توصيته بتجميد علاقاته بالبرلمان السورى.

 

●●●

 

كلاهما، الشيخ راشد الغنوشى والدكتور رفيق عبدالسلام وزير الخارجية، انتهزا فرصة وجود حوالى ستين من قادة الفكر والرأى فى العالم العربى، ليعلنا أن حكومة حركة النهضة وحلفائها لن تعترف بإسرائيل ولن تطبع العلاقات معها.. وأسر الوزير التونسى إلى المؤتمر بأنه عائد لتوه من مقابلة مع مسئول ألمانى كبير أراد مثل غيره من السياسيين الأوروبيين الذين اجتمع بهم التأكد من نوايا حكومة تونس الإسلامية تجاه إسرائيل، قال إنه أجابه بأن تونس لن تعترف بإسرائيل «رغم أننا ندرك جيدا ما يمثله هذا التصريح من تهديد لمصالحنا الاقتصادية فى ألمانيا»، وقال إن بلاده نظامها جمهورى ولغتها العربية ودينها الإسلام، وأن أحدا «لا يستطيع إجبارنا على إعلان أننا علمانيون، فعلمانيتنا نابعة من فهمنا الصحيح للعلمانية، وهذه على كل حال نقطة تخصصى الأكاديمى وموضوع أطروحتى للدكتوراه». ليس خافيا على من يتابع سباق الخليجيين على النفوذ فى شمال أفريقيا أن التنافس بين المملكة السعودية ودولة قطر صار حديث الوسط السياسى والحزبى فى تونس ويتردد بقوة السؤال عن أسباب برود العلاقة السعودية التونسية ويبدو أنها بالفعل عديدة ومهددة بالتفاقم.

 

●●●

 

تعمد صديق سودانى ينتمى إلى تيار ليبرالى يسارى أن يوجه عتابا صريحا إلى الشيخ الغنوشى، قال: «عتابى عليك يا شيخ، أنك دعمت ديكتاتور سودانى بينما كنت تأخذ موقف المعارضة من ديكتاتور تونسى. وأضاف مشككا فى كفاءة الأداء السياسى للقيادات الإسلامية فقال، إن التجربة الإسلامية التى أعرفها جيدا هى التجربة السودانية، وهى المسئولة عن انفصال جنوب السودان وتشققات فى جميع أنحائه والعديد من المعتقلين السياسيين. جاء رد الغنوشى خجولا وإن وجد فيه الحاضرون مغزى ومعانى، إذ قال «لقد تصرفت وقتها وفق ما كان متاحا لى من معلومات، وعلى كل حال لم يطل أمر علاقتى بالسودان أكثر من ستة شهور إذ سرعان ما وصلتنى موافقة بريطانيا على طلب اللجوء السياسى».

 

●●●

 

بينما كان الانقسام بين المشتركين فى المؤتمر واضحا وصريحا على الموقف من الثورة السورية وأداء مجلس التعاون الخليجى وحق نظام بشار الأسد فى استخدام العنف، كان الانفسام أقل وضوحا وصراحة عند مناقشة موضوع الثورة فى البحرين والمعايير المزدوجة التى استخدمتها أنظمة حكم عربية عديدة ودول الغرب، وكاد الانقسام ينعدم أثناء الحوار الذى دام لمدة ساعة ونصف الساعة حول مستقبل الأوضاع فى الجزيرة العربية بشكل عام واحتمالات نشوب الثورة فيها.

 

●●●

 

توقف الكلام واستأذن المتكلمون فى العودة إلى بلادهم، بعد أن وعد مركز دراسات الوحدة العربية بعقد مؤتمر آخر قريب فى القاهرة عاصمة الثورة الثانية، لدراسة قضية العلاقة بين الإسلام السياسى والديمقراطية، باعتبارها أهم قضايا مستقبل الثورة والاستقرار فى المنطقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved