الطفولة وبناء الإنسان

جورج إسحق
جورج إسحق

آخر تحديث: الخميس 13 فبراير 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

عندى قناعة أن بناء الإنسان المصرى الجديد ينبع أساسا من الطفولة، وإذا كنا جادين فى بناء إنسان مصرى جديد فعلينا الاهتمام بالطفولة حتى نرى جيلا بعد عشرين سنة مختلفا عن الجيل الحالى، ومهما بذلنا من جهد مع الكبار فى خلق إنسان جديد نجد صعوبة كبيرة وحاجة إلى جهد مكثف لتغيير الوعى والثقافة وتنقية العقل المصرى من الخرافات والخزعبلات التى تسود المجتمع. وهذا لا يعنى إطلاقا أن نهمل الجيل الشاب، ولكن الفاعلية الأكبر فى أن نتولى تربية الطفل والنشء بخطة استراتيجية جديدة، والآليات الحديثة فى التواصل تساعد كثيرا على الجهد الذى سوف يبذل، وتغيير أنماط سلوكيات الأطفال أسهل لأن عادات وتقاليد وأنماط السلوك للجيل الحالى يحتاج لنزعها جهد مضاعف.
ينص الدستور المصرى فى المادة 80 أن تكفل الدولة الأطفال من ناحية الصحة والتطعيم الإجبارى والتغذية الأساسية والمأوى الآمن، ولا ينسى الدستور المصرى الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة وتأهيلهم واندماجهم فى المجتمع، وحماية الطفل من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسى والتجارى، ويحظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن التعليم الأساسى كما يحظر تشغيله فى الأعمال التى تعرضه للخطر، ولا يجوز مساءلة الطفل جنائيا أو احتجازه إلا وفقا للقانون والمدد المحددة فيه، ويكون الاحتجاز فى أماكن مناسبة ومنفصلة عن أماكن احتجاز البالغين، هذه حقوق الأطفال المكفولة فى الدستور.
أما الآليات المطلوب تفعيلها فى تربية الطفل ثقافيا واجتماعيا هى إتاحة فرص التعلم بدون الضغوط التى نشهدها فى التعليم الآن، ولنا فى ذلك تجربة مع الطفل فى انجلترا إذ لا يُرغم على التعليم داخل جدران المدرسة طوال الوقت، بل يتاح له الخروج خارج أسوار المدرسة للتعرف على المنطقة المحيطة به من مراكز الشرطة إلى مراكز الإطفاء والمستشفيات المحيطة، وتدريس منهج الطبيعة خارج إطار الأسوار، فمثلا إذا كانت هناك بحيرة فيخرج معهم مدرس العلوم ويشرح لهم أو يكتشفوا بأنفسهم أماكن التلوث وكيف يعالجونها، وأيضا فى المدارس اليابانية التى طبقت فى مصر يتم تعليم الأطفال كيفية المحافظة على البيئة ولا يخجلون إطلاقا من تنظيف مدارسهم بأنفسهم ولا يحتاجون لعمال نظافة.
***
هناك قيم يجب تثبيتها فى أذهان الجيل الجديد منذ الطفولة مثل النظافة الشخصية والحفاظ على البيئة واحترام الآخر وقبول الاختلاف بطرق بسيطة وعملية وتطبيقية. فعندما كنت أدير أحد المدارس كان بعض الأطفال لا يجلسون بجانب المختلفين معهم فى الدين نتيجة لتوجيهات آبائهم، مما يمثل خطرا على المواطنين عندما يكبرون على هذه القيم. وعندما نعمل على تغيير الذهنية المثقلة بقيم لا تتفق مع مجتمعنا ونضع المعايير الثقافية، يجب إدراك الاختلافات بين الأطفال فى المجتمعات المختلفة؛ حتى لا نصيغ برامج نمطية لا تؤثر فى الطفل منذ الصغر. ونحتاج أيضا فى هذا الصدد إلى دراسات وأبحاث تتناول ثقافة الطفل بطريقة علمية ومنهجية، وللأسف مازال الكتاب والباحثون يهتمون بثقافة الكبار متناسيين ومتجاهلين توجيه الأطفال ورعايتهم فكريا، فالطفولة تسهم إسهاما مهما فى بناء الشخصية من شتى النواحى النفسية والعقلية والثقافية. ويجب محاولة إقناع الآباء ألا يضغطوا على أبنائهم حتى يصبحوا مثلهم وبنفس أفكارهم وإعطائهم الحرية والحق فى أن يكبروا بطريقتهم الخاصة ولا يكونوا نموذجا طبق الأصل من الكبار.
وفى مناخ التواصل والعلاقات مع الدول الأخرى، على الطفل أن يتعلم استخدام التكنولوجيا والمعلومات الحديثة بشكل يكسبه القدرة على توظيف معارفه، فالعلم فى أيامنا هذه هو الممارسة. وتكنولوجيا المعلومات تساعده على مواجهة تعقيدات الحياة. إلى جانب ذلك ينبغى تزويد الطفل بأدوات معرفية جديدة، فمثلا يجب أن نُعود الطفل على القيام بالأعمال الخيرية والتطوعية وكذلك تشجيعه على الأعمال المنزلية واستغلال طاقاته المتعددة وإكسابه صفات قيادية، لأن الطفل المصرى بالذات يتمتع بمواهب خلقية. وأريد أن أوضح مثالا لذلك: حيث مررت بتجربة مع أطفال القوصية محافظة أسيوط، أثناء إشرافى على مدارس الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية بخصوص الثقافة ونشرها بين تلاميذ هذه المدارس، وفى حوار جانبى مع صديقى العزيز المرحوم الروائى محمد مستجاب حول أن أطفال الصعيد لا يقرأون، طلبت منه أن نشترى 100 كتاب يوزعوا على أطفال الصعيد، وذهبنا إلى القوصية مرة أخرى بعد 15 يوما وحضر معى المرحوم محمد مستجاب لمناقشة الكتاب وفوجئ الكاتب العظيم أن الأطفال قرأوا الكتاب كله بعناية فائقة. ولذلك أرى أن العناية بالطفل المصرى واحترام قدراته يساعد كثيرا فى بناء طفل مصرى جديد. والواجب علينا أن نرسل القوافل الثقافية إلى القرى والمدن باستمرار لعرض آخر ما توصل إليه الأدباء وكذلك توزيع كتب الأطفال التى تنمى قدرتهم على الخيال وعرض بعض الأفلام المناسبة لهذه المرحلة العمرية لينطلق الأطفال فى رحاب عالم جديد.
***
يجب تربية الطفل ــ بموجب ميثاق الأمم المتحدة ــ على أن يتحلى بروح السلم والكرامة والتسامح والحرية والمساواة والأخلاق، وفى المادة 12 من ميثاق الأمم المتحدة «تكفل الدول الأطراف للطفل القدرة على تكوين آرائه الخاصة وحق التعبير عن تلك الآراء بحرية فى جميع المسائل التى تمس الطفل، وتولى آراء الطفل الاعتبار الواجب وفقا لسن الطفل ونضجه» وفى المادة 13 «للطفل الحق فى حرية التعبير ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أى اعتبار للحدود، سواء بالقول أو الكتابة أو الطباعة أو الفن أو بأى وسيلة أخرى يختارها الطفل» أما المادة 15 تنص على أن «تعترف الدول الأطراف بحقوق الطفل فى حرية تكوين الجمعيات وحرية الاجتماع السلمى» وفى المادة 17 «تعترف الدول الأطراف بالوظيفة الهامة التى تؤديها وسائط الإعلام وتضمن حصول الطفل على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدولية، وبخاصة تلك التى تستهدف تعزيز رفاهيته الاجتماعية والروحية والمعنوية وصحته الجسدية والعقلية وذلك عن طريق تشجيع التعاون الدولى فى إنتاج وتبادل ونشر المعلومات والمواد من شتى المصادر الثقافية الوطنية والدولية». هذه بعض الضمانات التى كفلها ميثاق الأمم المتحدة لحماية الطفل من أى انتهاكات يتعرض لها نموه فى بيئة طبيعية، وتضمنت هذه الاتفاقية 54 مادة، فلنا فى الدستور المصرى أسوة، ولنا فى ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بالطفولة أسوة، فلنبدأ معا بوضع استراتيجية خاصة لبناء الإنسان المصرى الجديد منذ الطفولة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved