اللجنة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 13 فبراير 2021 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

«اليوم تُجارى مصر الأمم المتمدنة بحفظ آثار قدمائها، وهى تحفظ للمدينة العربية تلك الأيادى التى طالما طوقت بها جيد العالم المعاصر»، هكذا قال نصًا رئيس لجنة حفظ الآثار العربية، المعمارى المجرى ماكس هرتز، عام 1904، بمناسبة افتتاح دار الآثار العربية (المتحف الإسلامى حاليا)، بحضور شيخ الأزهر حسونة النواوى ومحمد عبده مفتى الديار المصرية. ترأس هرتز لجنة حفظ الآثار العربية فى الفترة ما بين 1901 و1914، وقد كان يشار إليها كثيرا باختصار اسمها الفرنسى (Comité de conservation des monuments de l’art arabe)، فيطلق عليها «الكوميتيه»، وهى لجنة فريدة من نوعها تشكلت عام 1881، وفق فرمان أصدره الخديوى توفيق إلى إدارة الأوقاف تحت إشراف المعمارى الألمانى «فرانز باشا»، لإنقاذ ما تبقى من الآثار العربية منذ الفتح الإسلامى وما تلاه من عصور، إذ كان من مهام اللجنة عمل كشف بعدد الآثار العربية الموجودة بالقطر المصرى وأسمائها، وعند الانتهاء من ذلك القيام بمعاينة هذه الآثار وحفظها وإصلاحها وترميمها بشكل علمى صحيح إذا لزم الأمر. وقد أسفر عملها على مدار أكثر من سبعين عاما عن إصدار أربعين كراسة، تحتوى على تسعمائة وتسعة عشر تقريرا وثلاثمائة وثلاثة عشر محضرا، بالإضافة إلى عدد من الملفات التى يخص كل منها أثرا بمفرده، وهى على ما يبدو محفوظة فى الوقت الحالى فى أرشيف مركز تسجيل الآثار بالقلعة، هذا علاوة على مجموعة ضخمة من الصور ومشروعات الترميم الكاملة الموجودة بمركز تسجيل الآثار بالوزارة وبعض النسخ منها فى القسم الهندسى بوزارة الأوقاف.
أظن أننا بحاجة ماسة إلى الرجوع لوثائق هذه اللجنة ودراستها بعناية، بل وتكوين لجنة على غرارها، لأننا فى وقت يستدعى ذلك نظرا لما يحيق بالآثار من أخطار، ونمر بظروف مشابهة لتلك التى فرضت تشكيل اللجنة، فى ظل وجود جهاز آخر كان مختصا بتولى أمور الآثار الفرعونية أسسه فى وقت سابق عالم المصريات الفرنسى أوجست مارييت.
***
بدأت المشكلة بمخطط الخديوى اسماعيل لتحديث القاهرة وتحويلها إلى باريس الشرق، وكان المخطط يعتمد أحيانا على هدم الكثير من الأبنية التاريخية والمساجد القديمة والعديد من المنازل التى كانت تعوق سير العربات أو تقف حجرة عثرة أمام الميادين التى كانت تُرسم دون اعتبار لما قد يكون مكانها من آثار قيمة. وكانت المفارقة أن الخديوى اسماعيل هو نفسه من أراد تجميع الآثار العربية وحفظها فى متحف وأصدر أمرا بذلك، كما كان هو من أصدر فرمانا يحذر فيه أى شخص من تحطيم الآثار أو أخذ أحجارها وإلا سيتعرض لعقوبات صارمة، وأصدر فرمانا آخر لكل مديريات مصر المحروسة يقضى بسرعة توفير الحراس وفق حاجة مصلحة الآثار.
كانت هناك العديد من السجالات حول تنفيذ مخطط الخديوى اسماعيل للتحديث حتى تولى الحكم ابنه الخديوى توفيق عام 1879 ورأى ضرورة إنقاذ ما تبقى من آثار، بعد ضغط شديد من قبل المختصين ومجموعة من هواة الآثار ومحبى اقتناء التحف والمهتمين بالتراث والفنون عموما و«المولعين» بالقاهرة، من الأجانب والمصريين، الذين نددوا بهدم المبانى القديمة بدافع التحديث وأدانوا «تخريب الآثار تحت مسمى الترميم»، نظرا لاتباع السلطات وقتها لطرق غير دقيقة فى الإصلاح تعتمد كثيرا على الزخرفة وأحيانا إعادة البناء. ظلت اللجنة تضطلع بمهامها حتى قيام ثورة يوليو وتم حلها رسميا عام 1961، وبلغ عدد رؤسائها ما يقرب من خمسة وأربعين رئيسا، بينما بلغ عدد أعضائها حوالى تسعة عشر ومائة عضوا، ووصل عدد المقاولين والحرفيين الأجانب أربعة عشر مقاولا وحوالى خمسين من نظرائهم المصريين.
وعندما توصف اللجنة بأنها فريدة فى العالم فلم يكن ذلك على سبيل المبالغة ولا المجاملة، لأنها تعد أول عمل مؤسسى منظم لحفظ الآثار الإسلامية واختصت أيضا برعاية الآثار القبطية منذ 1896، ضمت أشخاصا من جنسيات وتوجهات وتخصصات وأيديولوجيات مختلفة، نجحت إلى حد كبير فى التغلب على النزعات الفردية وتجاوز الاعتبارات الاستعمارية، وقامت بالأساس على أكتاف نشطاء فى مجال التراث بعضهم تمتع بصيت دولى، وبعضهم من المستقلين والمتطوعين وأصحاب الأعمال الحرة، وبعضهم تولوا مناصب داخل أجهزة الدولة أو كانت لديهم علاقات طيبة بالدوائر الحكومية. أخذ العديد من أعضاء اللجنة على عاتقهم مهمة نشر المعلومات حول الآثار الإسلامية وإصدار المطبوعات والفهارس التى تساعد فى تحقيق ذلك، ومن بينهم من دفع الثمن غاليا حرفيا لأنهم كُبِلوا بالديون مثل المعمارى الفرنسى جول برجوان والرسام والكاتب إميل بريس دافين.
***
حالت الظروف السياسية دون اجتماع لجنة حفظ الآثار بشكل دورى، فقبل عام 1882 وتحديدا قبل الاحتلال البريطانى لمصر اجتمعت مرة واحدة فقط، وشارك فى الاجتماع وزيران من بين الوزراء السبعة الذين تشكلت منهم وزارة شريف، هما مصطفى فهمى ناظر الخارجية والذى شارك بصفته رئيسا للجنة، ومحمود سامى البارودى ناظر الحربية، وما إن انتهت الثورة العرابية حتى اجتمعت مرة أخرى فى ديسمبر 1882، أى قبل أسبوع واحد من رحيل عرابى ورفاقه إلى المنفى. وكان هذا الاجتماع الأخير صاخبا إذ واجه أعضاء اللجنة على باشا مبارك، وزير الأشغال العامة حينها، الذى كان يرغب فى توسيع شوارع القاهرة التاريخية وبالطبع كان سيجور على بعض المبانى القديمة، تصدوا له بضراوة وأطلقوا عليه «على الملعون» لأنه لم يراع خصوصية القاهرة التاريخية وطابعها العمرانى والمعمارى. خاضت أيضا اللجنة معركة أخرى لحماية زاوية وسبيل فرج ابن برقوق (1408 م) بشارع تحت الربع، إذ حاول على مبارك إزالة المسجد لبروزه على الطريق العام، فأجبرته اللجنة على نقله كاملا، دون المساس به، وإرجاعه إلى الوراء سبعة أمتار حيث يوجد الآن أمام باب زويلة. وقد تكرر ذلك فى مناسبات ومواقع أخرى عديدة، إذ كانت اللجنة دائمة التدخل لحماية الآثار والتفاوض إذا لزم الأمر لحفظ بعض القطع متحفيا حين يتم نقلها أو خلعها من مكانها الأصلى للضرورة.
أعتقد أنه يجب أن تتكاتف الجهود لتكوين لجنة شبيهة تجمع لفيفا من المهتمين والقادرين على التأثير لكى تشرف على أعمال الترميم وتتحرك لحفظ الآثار سواء إسلامية أو قبطية أو فرعونية إلى ما غير ذلك، وإلا لن تكون هناك حتى أطلال لكى نبكى عليها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved