المثليون: قضية مبتكرة فى الصراع الدولى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 13 مارس 2014 - 5:40 ص بتوقيت القاهرة

فجأة تصدرت أوغندا صفحات الصحف الغربية ونشرات الأنباء فى كبريات القنوات التليفزيونية. لم يتعلق هذا الاهتمام المفاجئ بعمليات التعذيب، التى تجرى ضد المعارضين لحكم الرئيس موسيفينى، أو بفضائح الفساد الصارخ فى أجهزة الدولة وداخل الحزب الحاكم. ولم يتعلق بالعنف الذى تمارسه مؤسسات الأمن الوطنى ضد المتظاهرين أو بتجاهل مطالب الفقراء. اقتصر الاهتمام على خبر واحد، خبر توقيع موسيفينى على تعديلات فى قانون تشدد العقوبات على كل من يروج لأفكار وممارسات لها علاقة بأنشطة المثليين والمثليات فى أوغندا، هؤلاء الذين اختاروا نوعا مختلفا من الحب يختلف عن النوع الذى تعارفت عليه الأجيال عبر القرون وأغمضت العيون عن أقلية تمارس هذا النوع الآخر من الحب.

•••

لا جديد فى واقع الأمر. فالاستعمار الإنجليزى كان أول من قنن فى أفريقيا تجريم ممارسة الحب المثلى، إن صح التعبير. بل إنه فى أوغندا ذاتها صاغ الحاكم الإنجليزى قانونا ضد ممارسة هذا النوع من الجنس عندما أمر الملك «موانجا الثانى» فى عام 1886 بإعدام اثنين من المبشرين الإنجليز انتقدوا علنا علاقاته المثلية. وفى الهند يوجد منذ أيام الإنجليز قانون بهذا المعنى وجارى الآن إضافة مواد تشدد العقوبة، وهناك حسب إحصائيات الأمم المتحدة أكثر من 78 دولة فى العالم تحرم هذه العلاقات. وبعضها يقر الإعدام عقوبة لمن يمارسها.

بدأت حملة تصعيد العقوبات فى الهند فى ديسمبر الماضى. وبعدها أقدمت نيجيريا على إدخال تعديلات مشابهة، ثم تلتها أوغندا ومعها فى نفس الوقت تقريبا روسيا. إذ قرر الرئيس بوتين معاقبة كل المنظمات والأفراد الذين يضبطون، وهم يشجعون الشباب خلال الأوليمبياد الشتوى على ممارسة هذا النوع من الجنس. كان واضحا أن بوتين أراد استباق حملة غربية كان يجرى الإعداد لها للتشويش على أوليمبياد سوتشى، ضمن اعتقاده أن الغرب يدبر لنظامه خططا عدائية. ومع ذلك كان يمكن أن تمر هذه التطورات دون جلبة شديدة لو توفرت النوايا الطيبة وتصرفت الأطراف بهدوء، وابتعدت عن الإثارة. بمعنى آخر كان يمكن أن يبقى الأمر شأنا داخليا، أو التعامل معه بقدر من الحساسية، خاصة أن أغلب الثقافات العالمية ما زالت محافظة أو رافضة لأفكار وممارسات تأتى من الغرب وتفوح منها رائحة التدخل أو الرغبة فى إثارة الفوضى.

لا جديد كما ذكرت سوى هذه الهيستريا الدبلوماسية والإعلامية التى رافقت صدور هذه القوانين وتعديلاتها. فجأة، وبفضل هذه الهيستيريا، أصبحت العلاقات الجنسية التى يمارسها المثليون موضوعا يتصدر اهتمامات الدبلوماسية العالمية. لم نسمع، أو نقرأ، على مدى عقود من متابعة دقيقة للدبلوماسية الدولية، عن أن علاقات من هذا النوع كانت موضوع نزاع أو صراع أو مفاوضات بين دولتين. قرأنا حكايات وأساطير عن جماعات وأمم مارستها، وأغلبها تناقلتها الأجيال فى صيغ الاستنكار، وبخاصة ما ورد منها فى الروايات المقدسة.

جرى العرف، ومازال يجرى، على اعتبار هذه العلاقة أمرا شديد الخصوصية، مثلها تماما مثل علاقات حب أو جنس تقوم بين رجل وامرأة لا تربطهما روابط تعاقدية أو شرعية. أمر لا يجوز أن يتحدث فيه الناس. وبالفعل ندر أن تجد بين الصحف الأفريقية والآسيوية صحيفة متخصصة فى كشف العلاقات الغرامية وبخاصة تلك التى يتورط فيها مسئولون ومشاهير

هذه المفارقة تفسر جانبا من الهيستيريا الأفريقية والروسية والصينية والهندية ضد الإعلام الغربى المدافع عن حقوق المثليين والمثليات، كانت هذه المفارقة، ومازالت، تلعب دورا مهما فى تجديد الصور المتبادلة بين شعوب الغرب من ناحية، وشعوب الشرق والجنوب من ناحية أخرى. لقد أريق خلال الأسابيع القليلة الماضية حبر غزير فى الكتابات الغربية والإفريقية عن «النفاق». بل أكاد أعتبر أن ما تبادلته الدبلوماسية الغربية ودبلوماسيات أخرى وما تبادلته أجهزة الإعلام تجاوز فى بعض الحالات حدود الاعتدال مخترقا الحد الفاصل بين لغة مراحل السلم من ناحية ولغة الحروب الاستعمارية والحرب الباردة من ناحية أخرى.

لقد شابت مواقف جميع الأطراف المشتبكة فى هذه القضية، الغرب وموسيفينى وفلاديمير بوتين، حالة متقدمة وربما مبالغ فيها من النفاق. موسيفينى وبوتين بوجه خاص، كلاهما يسعى لإثارة «قضية وطنية» تجتمع الأمة حولها وتقف داعمة لنظام الحكم. كلاهما يتعرض لاتهامات خارجية ومشكلات عبر الحدود ويريد حشد الدعم الداخلى لتسوية حسابات معقدة، وكلاهما حريص على المحافظة على مكتسباته الدولية التى حققها من خلال تطوير علاقاته بالولايات المتحدة وتحالفاته مع دول أخرى فى الغرب. لا يختلف اثنان من المتخصصين فى العلاقات الدولية على أن موسيفينى حليف طويل الأمد لأمريكا، ويلعب لصالحها دورا رئيسيا فى جنوب السودان والصومال والاتحاد الأفريقى، ولا يختلفان على أن بوتين استعاد بعض المكانة لبلاده بفضل مشاركته أمريكا فى مفاوضات حول الصراع فى سوريا وحول قضايا إيران النووية وبرامج تسلح كوريا الشمالية.

من الناحية الأخرى، يبدو النفاق أشد وضوحا فى المواقف الغربية، فالغرب لم يقدم خلال 28 عاما من حكم الدكتاتور موسيفينى على التهديد ولو مرة واحدة بقطع المعونة الاقتصادية احتجاجا على عمليات التعذيب والاعتقال وقضايا الفساد. ومع ذلك هددت أمريكا الأسبوع الماضى بوقف تنفيذ المعونة التى تتعدى مبلغ 480 مليون دولار، وأوقف البنك الدولى صرف مبلغ تسعين مليونا، احتجاجا على قانون المثليين والمثليات الذى قرر الرئيس الأوغندى سنه. خرج جون كيرى وزير الخارجية الأمريكية ليعلن للعالم بمبالغة مثيرة للسخرية أن ما يحدث فى أوغندا ضد المثليين والمثليات «أقرب شىء ممكن إلى نظام التفرقة العنصرية، الأبارثايد»، ويخرج البيت الأبيض فى واشنطن ببيان يهدد فيه شعب وحكومة أوغنده بأن صدور هذا القانون «سوف يجعل علاقات أوغندا بأمريكا علاقات معقدة».

استمعنا أيضا إلى وزراء فى الاتحاد الأوروبى يكررون تهديدات لا تقل حماسة عما صدر من أمريكا، ثم استمعنا إلى بان كى مون، السكرتير العام للأمم المتحدة، منتهزا فرصة إلقاء خطاب فى افتتاح أوليمبياد سوتشى ليدين قرارات الحكومة الروسية ضد المنظمات والهيئات، التى تشجع ممارسة المثليين والمثليات. وبينما هو فى نيويورك قام باستدعاء سفير أوغنده لينقل إلى كمبالا احتجاج المنظمة الدولية على بند فى قانون موسيفينى يشدد العقوبة المفروضة على المثليين الذى يمارسون الجنس مع صغار السن.

استمرت الهيستيريا تتصاعد. فى ميتشجان مثلا، الولاية الأمريكية الباحثة عن مستقبل لمدينة ديترويت التى أفلست ورحل عنها سكانها. قرر المحافظ دعوة خمسين ألف مثلى ومثلية من أوغنده وروسيا لاستيطان ديترويت وتعميرها. يتصور المحافظ أن بشرا من هذا النوع يستطيع أن ينشئ «مدينة الأحلام» لتحل محل مدينة ديترويت. هذه الأقلية، يراها المحافظ نموذجا لـ«الطبقة الخلاقة». وفى ولاية أريزونا أثير موضوع زواج المثليين والمثليات، وشهدت الولاية نشاطا منقطع النظير من جانب ممثلى كبار رجال الأعمال والمال الذين وقفوا مؤيدين هذا النوع من الزيجات، فى مواجهة صريحة مع قوى الكنيسة والقوى المحافظة الأخرى.

هيستيريا فى أفريقيا وهيستيريا فى الغرب، وبخاصة فى أمريكا. والمؤكد أن الخاسر فى النهاية هو هذه الأقلية التى يدور حولها الصراع الجديد من الغرب والشرق. لقد أدى الهياج الغربى حول الموضوع إلى إثارة غضب الشعب الأوغندى الذى اعتبر التدخل الغربى نوعا من الاستعمار الجديد. بمعنى آخر وقف الشعب إلى جانب رئيسه المستبد لأنه قال إن هذا التدخل ما هو فى الحقيقة سوى «امبريالية اجتماعية». هى محاولة جديدة من الامبريالية الغربية لفرض الهيمنة عن طريق إجبار شعوب أفريقيا على ممارسة سلوكيات غربية معينة. وكالعادة ركبت الموجة عناصر غوغائية مثل صحيفة «الفلفل الأحمر» التى نشرت قائمة بأسماء عدد من الشخصيات الأوغندية المعروفة بميولها المثلية، الأمر الذى ضاعف من خطورة الأزمة ومن وضع الأقلية المثلية فى أوغندا. تدهور الوضع أكثر حين خرج أحد «المهووسين» فى البرلمان الاسكتلندى يقترح منح حق اللجوء السياسى لمن ورد اسمه فى هذه القائمة.

أقدر تماما مواقف اصحاب النوايا الحسنة فى الغرب، وبخاصة هؤلاء الذين يقيمون الدنيا دفاعا عن حقوق الشعوب فى كل مكان. ولكنى أعرف أن هناك من يستتر بالنوايا الحسنة لتحقيق مصالح خاصة. هناك الجمعيات والمنظمات التى يمولها أغنياء كبار فى الولايات المتحدة، أو التى يدعمها ممثلون ومطربون فى هوليوود وغيرها. وهناك المؤسسات التى تسعى فعلا لاستعادة الهيمنة الامبريالية وتطويرها أو الحفاظ عليها. هؤلاء جميعا، يبالغون أحيانا ويتجاوزون، وبهذه المبالغات والتجاوزات يدفعون بالعلاقات الدولية إلى حافة التوتر يتلوها صراع وربما حروب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved