«محطة مصر»

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

حادث محطة مصر، هز كل من قرأ أو شاهد ما حدث بشكل إنسانى مخيف، كثيرا ما نلاحظ فى وقت الكوارث أن الإنسان يضع مسافة بينه وبين الحادث ليحمى نفسه من الحزن والانزلاق فى الكآبة على أساس أن هذه الأحداث «تخص أناسا آخرين»، فمثلا مشاهد الحروب أو اللاجئين أو الكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير نتعامل معها بتعاطف لكننا لا نرى أنفسنا، فيمن يمسهم الحادث لأنه بعيدا عنا، نحس أنه لن يطالنا، تماما مثل مشاهدة فيلم روائى حزين. أما حادث القطار فهو فى محطة معظمنا يستخدمها أو على الأقل استخدمها فى حياته بضع مرات، وبالتالى مشاهد المصابين والمكلومين أضافت إلى الحزن خوف كبير على النفس وعلى الأحبة.
هذا ليس الحادث الأول لكوارث ناتجة عن خطأ إنسانى كان من الممكن تفاديه، ليس فقط فى قطاع النقل وإنما فى معظم القطاعات الخدمية. والغضب الناتج عن وقوعه يواجه بردود أفعال تصب فى «العقاب»، عقاب سياسى للمسئول سواء كان وزيرا أو رئيس قطاع بالاستقالة أو العزل، وعقابا جنائيا بالتحقيق والمساءلة القانونية لكل من كان له مسئولية مهنية بالحادث. وبالرغم من أن «العواقب بمعنى المحاسبة وما يعقبها من قرارات لتفادى مثل هذا الحدث، وليس العقاب» جزء مهم من تطبيق أى منظومة من أول إدارة منزل وأطفال إلى إدارة مؤسسة أو شركة، إلا أن العقاب لن يطمئنا كمستخدمى خدمة سواء كانت نقل أو صحة أو تعليم أو حتى أفراد فى مجتمع مطلوب أن نتعايش بسلام فى شارع أو عقار واحد بدون خوف على أبنائنا من أخطاء الآخرين أو إهمالهم أو حتى جهلهم بعملهم.
***
أى منظومة ناجحة لها قائد ومناخ وفريق عمل، ولكل من هؤلاء دور محورى يصعب تجاهله أو الاعتماد على تحسين دور أحدهم دون الآخر إذا ما كنا نتمنى النجاح. وهو أمر ينطبق على المؤسسات كلها سواء كانت خدمية أو إنتاجية، وينطبق على الأسرة وكذلك على المجتمعات. فكلها تحتاج القائد الشخص الذى يمتلك رؤية ملهمة واقعية ومقنعة لفريق العمل، يستطيع أن يرسم توجها واضحا فى اتجاه يرى الجميع أن له فيه مصلحته الشخصية والعامة. ولديه من المهارات ما يطمئن الفريق إلى أنه عنده معرفة وقدرات عالية ويستطيعون أن يطمئنوا إلى أنه سيكون لديه حلول لمشكلات العمل وقادر على تفاديها أو على الأقل التعامل معها عندما تحدث، وأنهم يستطيعون لمسها وراغبون فى تبنى رؤيته كحلم شخصى لهم كأفراد ضمن فريق عمل، وبالتالى يتحمسون أولا للعمل الجاد الشاق لكن أيضا للتغيير المطلوب فى أسلوب العمل والتغيير صعب عموما وفى مصر أصعب حيث نرتاح كشعب إلى ما تعودنا عليه ونكره تغييره. هذا القائد إن لم يكن لديه الصلاحيات الإدارية والمالية والقوة والثقة الكافية لمتابعة العمل وتطبيق النظام والمحاسبة اللازمة لالتزام الفريق بها لن ينجح، وهو قد يحتاج فى ذلك إلى اختيار قيادات تعمل تحت رئاسته لها صلاحياتها هى أيضا. فتوضع أهداف واضحة وجداول زمنية ومتابعة فيها الكثير من التحفيز لمن يحقق المطلوب منه والمحاسبة لمن لا يحققها.
يراعى فى مناخ العمل أن يحس كل فرد فى الفريق «بالملكية» للمشروع وأن لكل شخص حقا فى أن يصل صوته، وفرصة فى أن يترقى، وحياة خاصة لا يدفع ثمن سعادته فيها من نجاحه فى عمله، ويجد فى مكان عمله من الظروف التى تطمئنه على سلامته سواء الجسدية لكن أيضا النفسية فلا يخشى اتخاذ قرار مهم أو تطبيق نظام جديد لأن قائده سيسانده فى ذلك ويحميه طالما هذا جزء من الطريق للوصول إلى الهدف الذى وضعه الفريق لرفعة المؤسسة/ مصلحة الشركة/ سمعة المهنة.. إلخ، أيا كان القطاع الذى نتحدث عنه. وأن يعطى ما يحتاجه من علم وتدريب ومعرفة تساعده ليحسن من أدائه ويفتخر بنفسه وبمؤسسته التى يحس فيها بالملكية.
وليحدث كل هذا فالفرد نفسه يحتاج أن يعرف أن مكان عمله و«أكل عيشه» له قدسية، وطريقة تعامله مع عمله تنعكس ليس فقط على أداء المؤسسة وإنما عليه شخصيا، وأن «البركة» فى عائده من العمل إذا تكلمنا بلغة الشارع مرتبطة ارتباطا مباشرا بما يسمى بأخلاقيات العمل «work ethic» وهى أخلاقيات نتعلمها أولا أثناء الطفولة من خلال تربيتنا وفى المدرسة والجامعة وهى أمور كلها متعلقة بالالتزام «discipline» بمعنى احترام مواعيد العمل وبإنجاز المهام الموكلة إليه فى الوقت المطلوب، وتقديره واحترامه لمهنته والفخر بجودة ما يقوم به وهو أمر لا يشترط منصبا كبيرا ولا تعليم عاليا وإنما هى «أخلاقيات» نمارسها أو لا نمارسها بغض النظر عن خلفيتنا، لأن كل جزء من العمل يصب فى النتيجة النهائية وينعكس على سمعة المؤسسة وجودة خدمتها وهو أمر لن يتحقق فى مجتمعنا إلا إذا احترمنا جميعا الإنسان وليس المنصب. يتطلب أيضا أن يكون الفرد «مهنيا» فالمهنية «professionalism» تعنى أن نفصل الخاص عن مصلحة العمل، ويكون ولاؤنا داخل مكان خدمتنا، ولاؤنا للمكان وللمهنة وليس للمصالح أو الميول الشخصية ونتعلم أن نقبل النقد ونتحمل مسئولية ما نقوم به من عمل أو قرارات نتخذها ونتقبل أن نحاسب عليها بدون شخصنة فبدون مراجعة لا أمل فى أن نتقدم.
***
المؤسسات والمهن كلها تستمد ثقة المجتمع فيها من: استقلاليتها بعيدا عن الضغوط الفوقية، تستمدها من قدرتها على محاسبة القائمين عليها داخليا وإظهار آلية الحساب بشفافية للمجتمع، ومن سلطتها على أعضائها فى أن تفرض عليهم ضوابطها الضامنة لجودة خدمتها، ثم قدرتها على حماية أبناء المهنة من الضغوط الخارجية لضمان استمرار استقلال الجهة الحاكمة لهذه المهنة أو الإدارة الحاكمة للمؤسسة. فقدان المؤسسة هذه السلطات والآليات يفقدها كثيرا من مصداقيتها، وبالتالى يفقدها ثقلها.
جديتنا فى تغيير واقعنا يجب أن تكون على درجة استعدادنا للمشاركة فى هذا التغيير، سواء كنا على مستوى القيادة أو على مستوى الفريق، لأن ثلاثية القائد، الفرد داخل فريقه، والمناخ إن لم تنضبط لا أظن أن استقالة وزير أو حبس أى عدد من الموظفين سيقلل من عدد شهداء الحادث القادم لا قدر الله ولن يخفف من ألم المكلومين ممن رأوا ذويهم يحترقون أو يغرقون أو تقع بهم مبانى أو يموتون فى حوادث طرق إلى آخر كل الحوادث التى تحدث بسبب عامل بشرى كان يمكن تداركه.
هناك مقولة بالإنجليزية تلمس واقع مجتمعنا «القيادة الحقيقية هى التى يحس تحتها كل فرد بأنه قائد».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved