أغراض قَديمَة للبَيع

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 13 مارس 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

ثمَّة ركنٌ في كُلِّ بيت، يحتضن حاجيات زائدة لا يستعملها أحد. مساحةٌ صغيرةٌ خلف بابِ حجرة، فراغٌ أوسعَ أسفل فراش، جانبٌ مُهمَل مِن شُرفةٍ لم يعد أفرادُ البيت يزورونها إلا في مُناسباتٍ نادرة، أو ربما مَسافةُ ضيِّقة بين دولاب راسخ في مكانِه وجدار. ثمَّة مكانٌ يحفلُ بأشياءٍ ربما لا يُدرِك القاطنون أنفسُهم أنها ما تزال موجودة؛ فإذا أدركوا، حقَّ الانتفاعُ بها، وفي أغلبِ الأحيان يغدو الانتفاع مِن نصيبِ آخر، لا علاقة له بساكني البيت.
***
تزايدت أعدادُ عربات الروبابيكيا بصورةٍ ملحوظةٍ في الآونةِ الأخيرة؛ يمُرُّ أصحابُها في النهار بين البنايات، تُجلجِل أصواتُهم مُعلِنة استعدادَهم الفوريِّ لحَملِ ما لم يعُد الناسُ في حاجةٍ إليه؛ كبر حجمُه أو صغر. يختصرون الكلمةَ طليانية الأصل؛ فتتحول على ألسنتِهم إلى ”بيكيا"، تسهيلًا للنِطق وتيسيرًا على السامعين.
***
لم يعُد مرور هؤلاءُ الباعة قاصرًا على ساعاتِ الصباح كما جرت العادة، بل امتد وجودُهم حتى الظهيرة وربما ما بعدها، كذلك لم تعُد الشوارع الفرعيَّةُ والطُرقاتُ الضيِّقة التي تتخلَّل المناطقَ السكنيَّة هي مَسالكهم المُفضَّلة، بل صارت الشوارعُ الرئيسةُ على خريطتِهم بصورةٍ أساسيَّة، يتوافدون عليها واحدًا وراءَ الآخر، شاخصين بأبصارِهم نحو النوافذ، في انتظار إشارةٍ داعيةٍ أو نداءٍ مُقابل.
***
في رحلةٍ امتدَّت لأسابيع تعاملت فيها مع عددٍ من باعةِ الروبابيكيا؛ أدركت أن أكثرَ الأشياء إثارةً لشهيتهم، وأعظمها حفزًا لحماستهم؛ "الألومونيوم". لا يقصدون بالطبع الأواني التي اعتاد الناسُ استخدامها في الطهي، بل ضُلف النوافذٍ والأبوابِ المَصنوعة مِن الألوميتال؛ بكافةِ أنواعِها وأحجامِها ومَهما كانت حالتها. أزاح الألوميتال منذ عقود نوافذَنا التقليديةَ المُكوَّنة مِن ”شيش“ خشب وضُلف زُجاجٍ داخلية؛ عن العرش. طردَها شَرَّ طردة مِن بيوتنا وحلَّ مكانَها ليجعلها مِثل أقفاصِ الزجاج؛ تمتصُّ الحرارةَ في جَحيمِ الصَّيف وتحتفظ لنا بالبُرودةِ في زَمهَريرِ الشتاء وتحرمنا الهواءَ الطبيعيَّ؛ إذ جَلَبت معها أجهزةَ المُكيِّفات ونصَّبتها مُكوِّنًا رئيسًا مِن مُكوِّنات المَنزِل العصريّ.
***
تميَّزت عربةُ الروبابيكيا فيما مضى بهيئتِها التي لا تخطئها عينٌ؛ صُندوق خشبيّ عَميق، له عجلتان فقط على الجانبين، وله ذراعان غليظتان مِن عروق الخشب أيضًا، يدفع بهما البائع العربةَ ويتركها تتكئ عليهما كُلَّما غادر لتلبيةِ نداءِ زبون. تحوَّلت عربةُ الروبابيكيا عتيقةُ المَظهر إلى تروسكل حديث، واكتسبت بالتالي سرعةً أكبر؛ إذ حلَّ المُحرك والإطارات الثلاثة مَحلَّ قدميّ صاحبها، كما أفقده التأني والصبرَ؛ فتسارع نداؤه هو الآخر، وبات على السُّكان بدورِهم أن يُعاجِلوا بالخروجِ إلى شُرفاتِهم ما احتاجوا خدماتِه.
***
جاء السؤالُ مِن صاحبة البيت: "عندنا موبيليا غالية تاخدها وللا صعب عليك؟" أتاها الردُّ مُباغتًا: "آخدها بعون الله ولو بمليون جنيه". ترجم الرجلُ ردَّه في غضون دقائقٍ قليلة؛ التقط مِن صدره حافظةَ نقودٍ جلديةٍ سميكة، وأخرج رزمة نقود فئة المائتين مِن الجُنيهات، ثم أحصى منها ما أحصى مُقابل قطعةَ أثاثٍ أعجبته؛ حَملها ومَضى.
***
لم يكُن هذا هو المَوقِف الوحيد الذي بدَّلَ مِن تصوُّراتي عن باعةِ الروبابيكيا. مُنذ أشهر قليلة، شَهَدت مُساومةً مُمتِعةً بين أحد الباعةِ وامرأةٍ في أواسطِ العمر؛ رحَّب فيها الأولُ بشراءِ مَشَّايةٍ كهربائية لمُمارَسة الرياضة ذات علامة تجارية مُرتفعة القيمة. بدت المَشاية ثقيلةَ الوزن، ضخمةَ الحجم بما يثير الشكَّ في إمكانيةِ حملِها على التروسكل؛ مع هذا لم يتقاعس الرجُلُ عن الخروج بها؛ فيما لم يُحبِّذ حَملَ منضدةٍ عاديةٍ وبعضِ المَقاعدِ القديمة.
***
أظن أن مَفهومَ ”الروبابيكيا" قد تطوَّر قليلًا عما ألفنا، وصار انتقاءُ البضاعةِ وفرزُها قبل المُوافقة على حملها ولو بأبخس سعر بل وبغير مُقابل أحيانًا؛ سِمَة ثابتة. لم تعد عَربةُ الروبابيكيا مَلجأ لتصريفِ المُهمَلات؛ لا يبحث البائع الآن عما يَودُّ الزبون التخلُّص مِنه بسبب انتهاء عمره الافتراضيِّ، وتهالُك وظيفته، بل يريد أن يتحصَّلَ فقط على ما يتمُّ استبعادُه مِن البُيوت وهو لا يزال على حاله الجيدة وربما الممتازة، لا عيب فيه ولا نقيصة؛ إنما هي رغبة مُلَّاكِه في التجديد والتغيير. على هذا؛ كثيرًا ما يعلن البائع ترفُّعَه عما استغنى عنه الزبون ويأبى المُجادلة، ولا شكَّ أن تصاعُدَ القُدرة الشرائية التي تسمح للباعةِ باقتناص أغراضٍ باهظة الثمن، كما تدفعهم لرفضِ الأغراضِ الأكثرَ تواضعًا؛ أمرٌ يحملُ دلالاتٍ اقتصاديةٍ عديدة؛ فالحراك الاجتماعيّ الحالي يُزلزلُ الأرضَ تحت أقدامِ طبقاتٍ بعينِها ويصعد بفئاتٍ جديدة إلى قمَّة الهرم، ويقلبُ المَوازين.
***
على كُلِّ حال؛ تمتلئ حيواتُنا بالروبابيكيا؛ أغراضٌ وأفعالٌ ومُفرداتٌ فقدت رونقَها، تلاشى مِنها البَريقُ وما عادت تؤدي وظيفتَها المُفترضَةَ، مع هذا نستبقيها ونتحايل لاستخدامِها، نحاول أن نبثَّ فيها الحياةَ لعلَّها تقينا شَرَّ الاجتهادِ لتغيير واقعنا؛ لكنها بطبيعةِ الأشياءِ تزداد تهالكًا؛ حتى لا يرضى بها بائع الروبابيكيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved