لكى تُنشّط السيولة حركة الأسواق!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 13 مارس 2020 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

لعل أبرز الظواهر الاقتصادية المنتشرة فى أسواق الدول النامية المريضة بالمديونية الثقيلة هى ظاهرة «الركود التضخمى». وهذه الظاهرة تعنى أن الاقتصاد قد وقع فى حلقة مفرغة من المشكلات المالية والنقدية والإنتاجية. فالإجراءات الحكومية لتحجيم المديونية عبر ضغط الطلب الكلى للأفراد وللحكومة، لا يسفر عنها أى انخفاض فى المستوى العام للأسعار بفعل تراخى هذا الطلب. ورغم أن انخفاض الأسعار يمثل رد الفعل المتوقع فى الظروف الطبيعية، إلا أن الذى يحدث هو أن تتجه أسعار السلع والخدمات المحلية والمستوردة ناحية الارتفاع، ويعم الغلاء أغلب الأسواق، دافعا الطلب الكلى للتراخى مرة أخرى، ومبتدئا حلقة جديدة من هذه الدائرة الخبيثة.
وفى تفسير هذه الظاهرة المرضية، قليلا ما ينظر لمشكلات السيولة فى الأسواق بعين الاعتبار؛ رغم أن التشوه فى مصادر واتجاهات هذه السيولة يفسر جزءًا أصيلا من تفاقم وتزامن مشكلات التضخم والركود، وحتى تعثر النمو الاقتصادى. والفقرات القادمة تحاول إثبات ذلك، وتبحث فى طبيعة العلاقة بين اتجاهات السيولة وحركة الأسواق من واقع دفتر أحوال السيولة فى الاقتصاد المصرى.
***
من يمتلك السيولة النقدية يصبح دائن للأسواق بمقدار ما يمتلكه من هذه السيولة، هذه مسلمة من مسلمات الاقتصاد. ولتوضيح هذه المسلمة، هب أنك تمتلك مقدار معين من النقود الحاضرة، أو لديك ودائع تحت الطلب فى أحد البنوك المحلية، أو حتى تمتلك ودائع بنكية آجلة يمكن فكها وتسييلها بتكلفة بسيطة؛ فأنت فى هذه الحالة دائن للأسواق بمجموع هذه الأصول السائلة؛ وتصبح السلع والخدمات المتداولة فى هذه الأسواق، رهن قرارتك الاستهلاكية. وبعملية تجميعية بسيطة، تصبح جملة السيولة المحلية هى نفسها جملة الديون التى يتعين على الأسواق المحلية أن تتحمل تبعاتها. وطالما الأمر كذلك، فإن كل نمو فى السيولة المحلية يعنى تزايد فى مديونية الأسواق بطريقة آنية، ويعنى أن هذه الأسواق مُطالبة بزيادة حجم ما تعرضه من سلع وخدمات كى لا تتعرض لاختناقات تُفضى للتضخم.
وإذا اعتمدنا على هذا المنظور وتأملنا فى تطورات النقود المتداولة فى الأسواق المصرية، وتتبعنا موقف تيارات السيولة الداخلة لهذه الأسواق، فإن البيانات المنشورة للبنك المركزى المصرى تكشف عن وجود اتجاه متسارع لنمو الودائع الجارية بالجنيه داخل الجهاز المصرفى وزيادة النقود المتداولة خارجه. ففى آخر عامين فقط (من مارس 2017 إلى مارس 2019)، زادت النقود المتداولة فى أيدى الأفراد والشركات والحكومة من 381 مليار جنيه لتصبح ما مقداره 451 مليار جنيه تقريبا. كما زادت ودائعهم الجارية فى البنوك من 244 مليار جنيه لتبلغ تقريبا 411 مليار جنيه فى ذات الفترة. وإذا كانت هذه المليارات الجديدة من السيولة قد وجدت طريقها للتداول فى الأسواق المحلية، فكان من المفترض أن تشهد هذه الأسواق حالة من الرواج المكافئ لتلك الزيادة النقدية. غير أن قطاعات اقتصادية عديدة (القطاع العقارى أوضح مثال) مازالت تعانى من ويلات الركود، ومازال الطلب على منتجاتها مُتقاعس عن استيعاب حجم المعروض منها؛ فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة؟!
إن تشريح النمو الحاصل فى السيولة المحلية فى الاقتصاد المصرى، وتوزيع هذه السيولة على مصادرها واستخداماتها، يمكنه أن يقوم بهذه المهمة المعقدة. ذلك أننا إذا أمعنا النظر فى تيارات هذه السيولة، وتابعنا توجهات الإنفاق الأسرى وإنفاق الشركات والحكومة فى أسواق السلع والخدمات وفى أسواق عناصر الإنتاج، يمكننا أن نستنبط المصادر الرئيسية لهذه الطفرة فى السيولة التى حدثت مؤخرا فى الأسواق المصرية، ويمكننا أن نحدد وجهاتها واستخداماتها، ثم نقيم فاعليتها فى تنشيط الطلب فى هذه الأسواق. وعلى أية حال، فإن النفقات الحكومية، تليها طفرات «السيولة المستوردة»، يليها التغير فى هيكل الإنفاق الأسرى، تليها التوسعات الجارية والاستثمارية للشركات، تعد فى مجملها المصادر الرئيسية للطفرة الحالية فى السيولة فى الاقتصاد المصرى. ففى غمار تخفيض قيمة الجنيه فى أواخر العام 2016 (المعروف إعلاميا بالتعويم)، اضطرت الحكومة لزيادة الأجور النقدية للعاملين بها، ورفعت الحد الأدنى الشهرى للأجور لقيمة 2000 جنيه تقريبا. وبسبب زيادة معدلات التضخم، ارتفعت فاتورة مشتريات الحكومة من السلع والخدمات، وتضخمت فاتورة تطوير وصيانة البنية الأساسية، وتوسعت السيولة على إثر ذلك. كما أنه ليس بخافٍ ما لضخامة الديون الداخلية من أثر على زيادة مدفوعات الأقساط والفوائد؛ ومن ثم، تحفيز الحكومة على زيادة المعروض النقدى لتأدية هذه الالتزامات المالية الداخلية.
وعلى جانب «السيولة المستوردة»، سنرى أن ما قدمته سياسة تخفيض قيمة الجنيه من حوافز وتسهيلات وما خلقته من فرص، قد علت بتدفقات رءوس الأموال الأجنبية للأسواق المحلية لأغراض الاستثمار المباشر والمضاربة على قيمة الجنية والمضاربة فى سوق الأوراق المالية، وقد أحوجت الاقتصاد للتوسع فى الاستدانة الخارجية. وقد أتت هذه الاستدانة، بشكل رئيسى، فى صورة تدفقات رءوس الأموال الأجنبية لشراء أدوات الدين الحكومى قصيرة الأجل. وكنتيجة مباشرة لكل هذه التدفقات الداخلة من العملات الأجنبية، تضخمت مكونات السيولة المحلية المقابلة لنمو الأصول الأجنبية فى السوق المصرية.
على أن الاستجابة لزيادة عوائد الإيداع البنكى فى الجهاز المصرفى (لاحظ أن هذا العائد قد اقترب من حاجز 20% فى أعقاب تخفيض قيمة الجنيه)، تدخل ضمن العوامل المحددة لحجم السيولة المحلية فى الأسواق. إذ تسببت هذه الزيادة فى تحويل جزء من محفظة السيولة لدى العائلات من شكلها النقدى لتصبح فى شكل ودائع جارية وغير جارية. فللاستفادة من هذا العائد المرتفع، زاد طلب الأسر على الودائع الجارية وغير الجارية بالجنيه، وتضخمت مكونات السيولة المحلية خلال الفترة التالية لتخفيض قيمة الجنيه.
وإذا كانت زيادة أسعار العائد فى الجهاز المصرفى قد أغرت أيضا الشركات المحلية لتوجيه جزء من محفظتها المالية هذه الوجهة المربحة والآمنة، إلا أن هذه المحفظة المالية كانت على موعد ثانٍ مع محفزات السيولة المحلية. فكان أن زادت فاتورة الأجور التى يتعين على هذه الشركات دفعها فى أعقاب تخفيض قيمة الجنية؛ إما لالتزامها القانونى برفع الحد الأدنى للأجور النقدية، أو لالتزامها أخلاقيا أمام العمالة التى تضررت من تراجع وتدهور قدراتها الشرائية فى الأسواق. كما، وفى ذات الوقت ولنفس الأسباب، زادت فاتورة النفقات الاستثمارية للشركات المحلية. وبزيادة الفاتورة الجارية والاستثمارية للشركات، زاد طلبها على النقود للوفاء بهذه الالتزامات الجديدة، ووجِد سبب جديد من مسببات التوسع فى السيولة المحلية.
***
لقد حددت الفقرات السابقة أربعة مصادر للتوسع فى السيولة المحلية؛ لكنها لم تتناول بعد مدى فاعلية هذه المصادر فى تحقيق دورها الأساسى فى تنشيط الطلب على السلع والخدمات المتداولة فى الأسواق المصرية. ولقياس وتقدير هذه الفاعلية، يجب أن نتتبع وجهات واستخدامات هذه السيولة داخل هذه الأسواق. فخلال السنوات التى تلت تخفيض قيمة الجنيه، وباعتبار أن رواتب العاملين بالحكومة والقطاع الخاص تمثل المصدر الرئيسى للدخل الأسرى، فإن الزيادة النقدية التى حدثت فى هذه الرواتب لم تقم بدورها المرجو والمأمول فى تنشيط الطلب الكلى فى الأسواق. إذ بسبب الزيادة فى سعر الضريبة على الاستهلاك (ضريبة القيمة المضافة)، والتوسع فى الرسوم مقابل الخدمات الحكومية التى حدثت فى نفس الفترة، أصبح الدخل المتاح للتصرف لقطاع عريض من كاسبى الأجور لا يواكب الزيادات السعرية التى حدثت فى سلة مشترياتها من السلع والخدمات، وخصوصا فى حالة السلع عالية المكون الأجنبى أو السلع ذات الطبيعة المعمرة (مثل العقارات). وانطلاقا من واقع الأسواق المصرية مرتفعة المكون الأجنبى فى سلال الاستهلاك بها، فقد عزز ذلك من انخفاض فاعلية تيارات السيولة الداخلة إليها، كنتيجة لتسرب جزء معتبر منها للخارج.
كما أنه بالنظر فى فاعلية تيارات السيولة التى خلقها التوسع فى النفقات الحكومية الجارية ونفقات البنية الأساسية خلال فترة التحليل، سنجد أنها تمثل فى الجزء الجارى منها انعكاس للفاعلية المنخفضة للرواتب من جانب الأسر؛ لكنها فى الجزء الخاص بالبنية الأساسية والتوسع العمرانى تنشط وتحفز الطلب فى قطاعات اقتصادية بعينها. فقطاع البنية الأساسية مثلا يستحوذ على شطر مهم من هذه السيولة الحكومية.
وإذا تساءلنا عن فاعلية تيارات السيولة الموجهة لخدمة أعباء الاستدانة الحكومية، فهى قصة مهمة وجديرة أن تروى. ففيما يخص السيولة التى خلقتها فوائد الديون المحلية، فإن أغلبها يذهب للمحافظ المالية للبنوك والشركات الخاصة، بصفتهما كبار المقرضين المحليين للحكومة؛ ثم تظل فاعلية هذه السيولة مرهونة بسياسات قطاعى الائتمان والتجزئة المصرفية بالبنوك المحلية، ومرهونة بالتطور فى هياكل توزيع الأرباح المحققة للشركات الدائنة للحكومة. ولما كان البنك المركزى قد لجأ لسياسة «التيسير الكمى» بطرحه عددا من المبادرات البنكية (مثل مبادرة التمويل العقارى ومبادرة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومبادرة مساندة مديونية القطاع الصناعي)، فيدل ذلك دلالة هامة على قناعته بأن الوضع الحالى للسيولة ضعيف الفاعلية، وأن البنوك التجارية عليها أن تعزز من أدوارها لتحريك مياه الأسواق المحلية الراكدة. أما السيولة المولدة من أرباح كبريات الشركات المحلية و«السيولة المستوردة»، تظل فاعليتهما فى تحفيز الطلب داخل الأسواق المحلية شبه منعدمة فى حالة ما تم إعادة تحويلها للخارج.
***
يمكننا الآن أن نخلص لنتيجة رئيسية من التحليل السابق؛ وهى أن دخول تيارات جديدة من السيولة للأسواق المحلية ليست شرطا كافيا لكى تتغلب هذه السوق على مشكلة الركود المتزامن مع التضخم؛ بل قد تصبح سببا إضافيا فى تكريس هذا الركود التضخمى، إذا كانت من النوعية محدودة الفاعلية. وإزاء هذه النتيجة، لن يكون البنك المركزى المصرى مدعوا فقط لمزيد من التخفيض فى أسعار العائد فى الجهاز المصرفى وتعزيز مقومات الشمول المالى لتعزيز فاعلية السيولة البنكية، ولن يطالب فحسب بإطلاق مبادرات لضخ مزيد من الراكد من هذه السيولة فى الأسواق؛ بل سيكون لزاما عليه التنسيق الكفء مع السياسة المالية لاتخاذ جميع التدابير المالية والنقدية لتضييق الخناق على ظاهرة الركود التضخمى، والقضاء على مسبباتها الأساسية. ولن يحدث ذلك إلا بتغيير طريقة إدارته للسيولة المتداولة فى الأسواق لتصبح من النوعية الفاعلة. فسوق دون هذه السيولة، كبحيرة فارغة من الماء!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved