الحاضر والغائب من دروس التاريخ فى أوكرانيا.. لهم ولنا

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 13 مارس 2022 - 11:31 م بتوقيت القاهرة

تصور كثيرون أنه مع سرعة التطورات الاقتصادية والاجتماعية منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، مع القفزات الهائلة فى إنتاج المعرفة وترجمتها فى تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات، أن الماضى لن يعود له تأثير على حركة المجتمعات فى الحاضر، وأن التاريخ سيفقد أهميته فى تشكيل مستقبل الأمم. ومع ذلك يضرب الصراع الجارى فى أوكرانيا والمواقف الحادة التى اتخذتها منه دول حلف الأطلنطى، وفى مقدمتها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، الدليل على خطأ مثل هذا الاعتقاد. فلا يمكن فهم هذه المواقف إلا بالعودة إلى الذاكرة التاريخية لهذه المجتمعات، ما يقفز منها إلى أذهان قادتها ومواطنيها، وكذلك ما يغفلون عنه. فذاكرة البشر جميعا عن الماضى هى ذاكرة انتقائية، يتخير وعيهم منها بعض الأحداث، وينحى جانبا آخر، ومع ذلك ففهم سلوكهم يقتضى وضع كل ما جرى فى الماضى فى حسبان المراقب الدءوب، فربما يكون فيما غفلوا عنه أفضل مرشد لهدايتهم للطريق الصحيح فى التعامل مع أزماتهم الراهنة.

الذاكرة الغربية
لا شك مثلا أن الدول الغربية تتذكر جيدا ما جرى فى السنوات القليلة التى سبقت الحرب العالمية الثانية، وكيف تساهلت فى التعامل مع خطر النزعات التوسعية لألمانيا النازية، وكيف تصور نيفين تشامبرلين رئيس الوزراء البريطانى فى ذلك الوقت أن سكوته عن ضم هتلر لكل من النمسا وبعد ذلك إقليم السوديت فى تشيكوسلوفاكيا سوف يشبع طموحاته، وأنه سيكتفى بذلك، أو أنه سيوجه قواته إلى شرق القارة الأوروبية ويلتهم الأقاليم التى سكنها السلافيون وفى مقدمتهم الروس، تلك الأقاليم التى كان هتلر يعتبرها المجال الحيوى لألمانيا. وثبت خطأ هذه التصورات، عندما بدأت القوات الألمانية زحفها نحو إقليم دانزج ذى الأغلبية المتحدثة بالألمانية والذى كان جزءا حينئذ من بولندا، وكان بداية الحرب العالمية الثانية، فسقطت حكومة تشامبرلين فى بريطانيا، وحل محله وانستون تشرشل الذى لم يكن لديه أى وهم بالنسبة لحدود طموحات القائد الألمانى.
ولكن يسقط من الذاكرة الغربية أن ما فعله هتلر هو رد فعل لمشاعر الذل والإهانة التى شعر بها قسم كبير من الألمان إزاء تسويات فرساى فى ١٩١٩ التى انتهت بها الحرب العالمية الأولى، وأن اقتطاع مساحات واسعة من أراضى الإمبراطورية الألمانية بما فى ذلك ليس فقط إقليما السوديت ودانزج ولكن كذلك إقليما الألزاس واللورين اللذان أصبحا من نصيب فرنسا، مثلا ١٣٪ من مساحة ألمانيا، فضلا عن التعويضات وإلحاق ذنب اشتعال الحرب بها. ربما ألهب هتلر مشاعر الألمان بالحديث عن هذه التسويات المهينة لهم، ولكن الرغبة فى تصحيح هذه الأوضاع من وجهة نظره كانت قد عبرت عن نفسها مبكرا فى محاولة الانقلاب الفاشلة التى قام بها وصدر لها واحد من قادة الإمبراطورية الألمانية فى تلك الحرب، وهو الجنرال إريك دودندورف الذى كان الرئيس الفخرى لذلك الحدث فى ميونيخ فى أكتوبر ١٩٢٢ والذى عرف فى التاريخ بانقلاب حانة البيرة.
سقطت من الذاكرة الغربية آثار هذه التسوية فى نمو النزعة الانتقامية لدى قطاع مهم من النخبة والشعب فى ألمانيا.

ولذلك تعامل الغرب مع سقوط الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو بنفس الاستهانة. طبعا لم يكن من الواقعى أن يتصور القادة الروس أن الولايات المتحدة ستفى بالوعد الذى قطعه فى موسكو فى فبراير ١٩٩٠ جيمس بيكر ــ وزير الخارجية الأمريكى ــ لميخائيل جورباتشوف ــ آخر رئيس للاتحاد السوفيتى ــ بأن حلف الأطلنطى لن ينتهز فرصة سقوط حائط برلين وتوحيد ألمانيا لمد نفوذه إلى دول حلف وارسو سابقا فى شرق أوروبا والتى يقع بعضها على حدود روسيا ذاتها.

لم يتصور قادة الأطلنطى وخصوصا فى الولايات المتحدة وبريطانيا أن توسع حلف الأطلنطى على هذا النحو والذى ضم كل دول حلف وارسو السابقة فضلا عن ثلاث جمهوريات فى إقليم البلطيق كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، بل وأن عدم رفضها علنا حتى الآن من حيث المبدأ انضمام أوكرانيا عضوا جديدا فى الحلف سيثير غضب روسيا وخصوصا وهى تقع على حدود روسيا وكانت سابقا إحدى الجمهوريات السوفيتية، وتربطها بالروس روابط تاريخية وثقافية مهمة لكون شعبها مع الروس من ذوى الأصول السلافية التى كانت أساس تكوين روسيا كدولة منذ عهود طويلة، بل ويمكن أن يكون سببا فى صراع جديد معها.

ذاكرة الرئيس بوتين

التعامل الانتقائى مع التاريخ هو سمة لرؤية الرئيس بوتين. هو يتذكر جيدا الإمبراطورية القيصرية والتى ضمت شعوبا كثيرة فى أوروبا وآسيا، وقد خرجت كلها عن الاتحاد السوفيتى فى ١٩٩١ وأصبحت ــ مثل أوكرانيا ــ دولا مستقلة، ويعتبر بوتين سقوط الاتحاد السوفيتى على هذا النحو أخطر الأحداث الجيو سياسية فى القرن العشرين. ويشير المراقبون أنه يحلم باستعادة النفوذ الروسى على كل تلك الأقاليم، ليس فقط ما كان منها من جمهوريات الاتحاد السوفيتى، بل يطمع، وهذا هو المطلب الروسى الرسمى، فى انسحاب حلف الأطلنطى من كل الدول التى كانت سابقا من أعضاء حلف وارسو وبعضها على حدود روسيا، وشكلت منطقة نفوذ للاتحاد السوفيتى. بل هو لا يعترف بأن بعض البشر الذين يعيشون فى هذه الدول يستحقون أن يكونوا دولا. أوكرانيا فى رأيه لم تكن دولة قبل الثورة البلشفية التى أتت بالشيوعيين إلى حكم أقاليم روسيا القيصرية سابقا، وإنما كانت منحة من لينين قائد تلك الثورة، وعلى الرغم من أن بوتين كان عضوا فاعلا فى جهاز المخابرات السوفيتى فى ظل الحكم الشيوعى، إلا أنه يرى أن استئصال الشيوعية يقتضى أيضا إلغاء تراثها، ومنه وجود بولندا كدولة.
يغفل الرئيس الروسى أن السبب الرئيسى المباشر لسقوط الاتحاد السوفيتى كان هو الفشل فى تحويل ما قام به لينين وما نص عليه الدستور السوفيتى فى ١٩٣٦ من منح الاستقلال الذاتى للقوميات المختلفة التى تشكل منها الاتحاد السوفيتى السابق إلى واقع. من الناحية النظرية المحض اعترف الاتحاد السوفيتى بالتعدد الثقافى داخل حدوده وأضفى عليه طابعا سياسيا بأن جعل الحكم الذاتى حقا لكل القوميات أيا كان حجمها؛ تتمتع باستخدام لغتها والتعبير عن ثقافتها. بل اعترف بأن للقوميات الكبرى فيه حق المطالبة بتقرير المصير، ولذلك كان اسمه الرسمى هو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وكانت القوميات الكبرى فيه هى وحداته الأساسية. فهذه القوميات الخمس عشرة هى الجمهوريات الاتحادية التى تكون منها، بل إن اثنتين منها كانتا أعضاء فى الأمم المتحدة وهى كل من أوكرانيا وبيلا روس اللتين احتفظتا بتمثيل مستقل إلى جانب الاتحاد السوفيتى ذاته، ولذلك كان للاتحاد السوفيتى مع هاتين الجمهوريتين ثلاثة أصوات بثلاثة مقاعد فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان رئيس كل من الجمهوريات الخمس عشرة ينتمى إلى القومية السائدة فيها، وكانت كل من هذه الجمهوريات تستخدم لغتها القومية إلى جانب اللغة الروسية التى كانت رابطا مشتركا فى التواصل بينها. وفضلا على ذلك فبعض أبناء هذه الجمهوريات وصل إلى أن يكون أقوى شخصية فى الاتحاد السوفيتى؛ فستالين كان من جورجيا، وخروشوف الذى تلاه أمينا عاما للحزب الشيوعى السوفيتى هو أصلا فلاح من أوكرانيا. بل إن الحق فى الحكم الذاتى امتد إلى داخل الجمهوريات الاتحادية، فعندما تتكون بعضها من قوميات أصغر يصبح لهذه القوميات أن تتمتع بوضع الجمهوريات ذات الحكم الذاتى، ومن بين الجمهوريات العشرين فى هذا الوضع، كانت ست عشرة منها تقع فى جمهورية روسيا الاتحادية ذاتها، واثنتان فى جورجيا، وواحدة فى كل من أذربيجان وأوزبكستان، وحتى فى حالة وجود قوميات أصغر فمن حقها أن يكون لها إقليم مستقل، وكان هناك ثمانية من هذه الأقاليم ذات الحكم الذاتى وتسمى أوبلاست فى جمهورية روسيا الاتحادية، وكان منها إقليم مستقل لليهود عرف باسم يفريسكايا أو بيروبيدجان.
ولكن كان يحد من هذا الحكم الذاتى أن كل هذه الجمهوريات يحكمها حزب واحد هو الحزب الشيوعى السوفيتى، ولها جميعها نفس الجيش، وتخضع لنظام قضائى مركزى، كما أن جهاز التخطيط المركزى (جوسبلان) يضع الخطة لها كلها، ميزانية الاتحاد السوفيتى كانت واحدة. وفضلا على ذلك فإن القائد الثانى فى كل جمهورية ينتمى إلى قومية غير القومية ذات الأغلبية، ولجأت الحكومة الاتحادية فى موسكو إلى تشجيع انتقال السكان، قهرا فى بعض الأحيان، وتسهيلا للتصنيع من ناحية ثانية، ومن ثم أصبح أغلبية السكان فى بعض مدن الجمهوريات الأخرى من غير قوميتها، وكان ذلك الوضع صارخا فى جمهوريات البلطيق صغيرة الحجم، فكانت نسبة كبيرة من سكان مدنها من الروس تحديدا، وهو ما ولد مشاعر ضغينة بين مواطنيها الأصليين. وعندما أتاحت السياسات الإصلاحية المعروفة باسم سياسات إعادة البناء تحت حكم جورباتشوف، الذى تولى منصب الأمين العام للحزب الشيوعى السوفيتى ثم رئيس الاتحاد السوفيتى من ١٩٨٥ــ١٩٩١، قدرا من حرية التعبير ثم التنافس فى الانتخابات، انتهز قادة بعض هذه الجمهوريات الفرصة للمطالبة بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتى، وكانت البداية هى فى جمهوريات البلطيق الثلاث وهى إستونيا ولاتفيا وليتوانيا فى أغسطس ١٩٩١، وأعقبها كل رؤساء ما بقى من جمهوريات الاتحاد باستثناء جورجيا بإعلان خروجهم عنه فى ١٩ ديسمبر ١٩٩١، مما أدى إلى انتهائه رسميا بعد ذلك بأسبوع. صحيح أن سقوط الاتحاد السوفيتى لم يكن نتيجة ثورة شعبية، ولا حتى رغبة من سكان معظم هذه الجمهوريات فى فك عرى الرابطة الاتحادية، ولكن من المؤكد أن قادة الجمهوريات السوفيتية استغلوا رغبة المواطنين فى مزيد من التحرر من سيطرة موسكو فى الدعوة للاستقلال عن الاتحاد. فهل يتصور الرئيس بوتين أن مثل هذه المشاعر القومية ستخمد فى ظل فرض السيطرة الروسية بقوة السلاح على جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، وفى مقدمتها جورجيا ثم أوكرانيا؟ وهل يرضى مواطنو أوكرانيا أن يوصفوا بأن ليس لهم الحق فى الاستقلال عن روسيا؟ هذه الاعتبارات يبدو أنها سقطت من الذاكرة الانتقائية للرئيس الروسى.
ما الذى تحتفظ به ذاكرة دول الجنوب
إذا كانت الذاكرة الانتقائية لدول حلف الأطلنطى قد أسقطت أثر التسويات الدولية بعد هزيمة خصومها فى توليد النزعات الانتقامية فى نفوس المهزومين مما كان سببا فى توتر بين الفريقين انتهى بحرب مدمرة عانى العالم كله منها، وإذا كانت الذاكرة الانتقائية للرئيس الروسى جعلته يغفل عن أن المشاعر القومية كانت وراء انهيار الاتحاد السوفيتى الذى اعتبره أكبر كارثة جيو سياسية فى القرن العشرين، ويتصور أن السلام على حدود روسيا يمكن أن يتحقق بتجاهل المشاعر القومية لمواطنى الدول التى يسعى لمد السيطرة الروسية عليها، فماذا يجب أن يظل حيا فى ذاكرة شعوب الجنوب؟
التصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أسبوع كشف أن الدول الكبرى فى جنوب العالم ومعها الصين قد أدركت أن المقاطعة الاقتصادية للاتحاد الروسى ليست فى مصلحتها، وأن الأفضل لها، حتى وهى لا توافق على الحرب التى تشنها روسيا على أوكرانيا، أن تنأى بنفسها عن هذا الصراع، وأن تلتزم الحياد فيه. هذه الدول ومعها الصين تمثل أغلبية سكان العالم، فمنها الهند وباكستان وبنجلادش وإندونيسيا وتركيا فى آسيا، والبرازيل والمكسيك والأرجنتين فى أمريكا اللاتينية، ومصر فى الوطن العربى ومعها دولة الإمارات. موقف الحياد الإيجابى هو الذى يجب أن يعود إلى ذاكرة دول الجنوب، وهو الذى يمكنها من أن تصبح طرفا فاعلا فى النظام الدولى متعدد الأقطاب الذى تشكل بالفعل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved